فَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ لَهُ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ الَّذِي أَحَاطَ بِهِمْ فِيهِ هَوْلُ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ وَفَرَّجَ عَنْهُمْ، وَوَصَلُوا الْبَرَّ رَجَعُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [17 \ 67] .
وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْضَحَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [10 \ 22 - 23] ، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [6 \ 63 - 64] ، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [31 \ 32] ، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [39 \ 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ «فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ» وَغَيْرِهَا.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ سَخَافَةَ عُقُولِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الْبَرِّ وَنَجَوْا مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ رَجَعُوا إِلَى كُفْرِهِمْ آمِنِينَ عَذَابَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى الْبِرِّ، بِأَنْ يَخْسِفَ بِهِمْ جَانِبَ الْبَرِّ الَّذِي يَلِي الْبَحْرَ فَتَبْتَلِعَهُمُ الْأَرْضُ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَتُهْلِكَهُمْ، أَوْ يُعِيدَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْبَحْرِ فَتُغْرِقَهُمْ أَمْوَاجُهُ الْمُتَلَاطِمَةُ، كَمَا قَالَ هُنَا مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَمْنَهُمْ وَكُفْرَهُمْ بَعْدَ وُصُولِ الْبَرِّ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [17 \ 68] وَهُوَ الْمَطَرُ أَوِ الرِّيحُ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْحِجَارَةُ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [17 \ 69] ; أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، فَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْقَاصِفُ: رِيحُ الْبِحَارِ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكْسِرُ الْمَرَاكِبَ وَغَيْرَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَامٍ:
إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ... عِيدَانَ نَجْدٍ وَلَا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ
يَعْنِي: إِذَا مَا هَبَّتْ بِشِدَّةٍ كَسَرَتْ عِيدَانَ شَجَرِ نَجْدٍ؛ رَتَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.