قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَبَيَّنَ هَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 161] ، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - إِلَى قَوْلِهِ - مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [22 \ 77 - 78] وَقَوْلِهِ: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ [60 \ 4] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْمِلَّةُ: الشَّرِيعَةُ. وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَنْ كُلِّ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينِ الْحَقِّ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَنَفِ: وَهُوَ اعْوِجَاجُ الرِّجْلَيْنِ ; يُقَالُ: بِرِجْلِهِ حَنَفٌ، أَيِ: اعْوِجَاجٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ تُرَقِّصُهُ وَهُوَ صَبِيٌّ: وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ بِرِجْلِهِ مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: حَنِيفًا حَالٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ; عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ: مَا كَانَ جُزْءُ مَا لَهُ أُضِيفَا أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلَا تَحِيفَا.
لِأَنَّ الْمُضَافَ هُنَا وَهُوَ مِلَّةُ، كَالْجُزْءِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهُوَ: إِبْرَاهِيمَ ; لِأَنَّهُ لَوْ حُذِفَ لَبَقِيَ الْمَعْنَى تَامًّا ; لِأَنَّ قَوْلَنَا: أَنِ اتَّبِعْ إِبْرَاهِيمَ، كَلَامٌ تَامُّ الْمَعْنَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُهُ بِكَوْنِهِ مِثْلَ جُزْئِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يُجَادِلَ خُصُومَهُ بِالطَّرِيقِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ طُرُقِ الْمُجَادَلَةِ: مِنْ إِيضَاحِ الْحَقِّ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [16 \ 125] ، قَالَ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [29 \ 46] أَيْ: إِلَّا الَّذِينَ نَصَبُوا لِلْمُؤْمِنِينَ الْحَرْبَ فَجَادِلْهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُؤْمِنُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وَنَظِيرُ مَا ذُكِرَ هُنَا مِنَ الْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَوْلُهُ لِمُوسَى وَهَارُونَ فِي شَأْنِ فِرْعَوْنَ: «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» [20 \ 44] ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ اللَّيِّنِ: قَوْلُ مُوسَى لَهُ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [79 \ 18 - 19] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، أَيْ: زَاغَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ