بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الحادي والعشرون

(تابع: التعارض والترجيح)

تقديم كثرة الاستعمال على قوة القياس

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإليك بقية الباب السادس من أبواب كتاب (الاقتراح)، والذي عقده السيوطي للحديث عن التعارض والترجيح:

قد يكون الشيء كثيرًا في استعمال العرب الفصحاء الموثوق بعربيتهم، وهو مع كثرته في الاستعمال أضعف في القياس من غيره؛ وإذا تعارضت كثرة الاستعمال مع قوة القياس كان استعمال ما كثر استعماله أولى مما قوي قياسه.

وقد ساق السيوطي في هذا الأمر مثالًا نقله عن ابن جني: وهو تقديم "ما" النافية الحجازية على "ما" التميمية، ولغة بني تميم أقوى قياسًا؛ لأن "ما" فقدت شرط العمل، وهو: الاختصاص؛ ولذلك قال سيبويه عن إهمال ما في لغة بني تميم؛ قال: وهو القياس؛ فهي حرف غير مختص؛ فكان القياس ألا تعمل؛ إلا أن قوة القياس هنا معارضة لكثرة المسموع؛ إذ كثر في الكلام الفصيح إعمال "ما" عمل "ليس"؛ وعدت هذه اللغة هي اللغة العليا؛ لأن القرآن نزل بها، ومنه قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (يوسف: 31) وقوله -عز وجل-: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (المجادلة: 2).

ولما تعارضت قوة القياس مع كثرة الاستعمال كانت كثرة الاستعمال هي المقدمة، وكان على المتكلم أن يستعمل في كلامه ما كثر استعماله في كلام الفصحاء؛ ولذلك قال ابن جني في المصدر السابق نفسه: إذا استعملت أنت شيئًا من ذلك؛ فالوجه: أن تحمله على ما كثر استعماله، وهو اللغة الحجازية؛ ألا ترى أن القرآن بها نزل؟! انتهى.

ومعنى ما ذكره ابن جني: أن على المتكلم أن يتكلم بلغة الحجاز لأنها اللغة التي كثر استعمالها؛ إلا أن هذا الحكم ليس على إطلاقه؛ وإنما هو حكم مقيد بقيد، وهو: أن تستوفي "ما" شروط إعمالها عند الحجازيين، وهي: مراعاة الترتيب بين اسمها وخبرها، بأن يكون اسمها متقدمًا وخبرها متأخرًا، وألا يتقدم معمول

طور بواسطة نورين ميديا © 2015