وفجأة انفرط من عقدنا، وانضم عمليا الى حلقات دروس الجامع الأخضر وفروعه بكل ما يملك من قناعة وارادة واستعداد.
وحين استقر به المقام أخذ ينهل من مناهل العلم والعرفات، ويغوص لاستخراج اللآلى والمكتنهات، وعلى حين غرة، لمح الأستاذ ابن باديس منه مخايل الذكاء والنجابة وبعد النظر، فزاده عناية، وأولاه اههاما وقربه اليه، وشاركه في أعماله، لما وجد فيه من صفات الدعاة الأمناء: (الايمان، والشجاعة، والفصاحة، والقدرة عل الاقناع، والثقة بالنفس)، فاعتمده، ورشحه لحمل رسالة الدعوة الى الله، بعد ما براه كالسهم، وزوده بزاد العلم، وحصنه بقوة الفهم، ونفاذ البصيرة.
وعاد الينا معشر زملائه الطلبة بقوة جبارة تحارب السكون والانطواء، بحمل في داخله نفسا متأججة من الحماس، وقبسا وهاجا من نور الله، يفيض بهما علما وحكمة وأفكارا وبيانا، فيتناول بيننا آيات من القرآن الكريم، أمثال قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة). ثم يفيض على الموضوع سيلا من المعاني ويفجر منه شلالا من الأسرار التي تنطوي عليها لآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تلك الأسرار التي لم تتفتح لها أفهامنا، ونحن نتلو هذه الآيات مع كل القرآن الذي نحفظه، ونقرأ هذه الأحاديث من قبل.
فكان من أثر هذا اللقاء، وهذه الصيحة التي جهر بها بيننا، أن استجاب لها نحو عشرين طالبا، انفرطوا من العقد الذي كان يجمعنا، فانبعثوا لطلب العلم، وانضموا الى طلبة (الجامع الأخضر)، وما كانت مبادرتهم لاتخاذ هذا السبيل الا نتيجة لذلك المخاض الذي أحدثته فينا جميعا أسرار الآية القرآنية الآنفة الذكر، وجمع من الحكم البالغة التي كان يغدق بها علينا.