وَزَعَمُوا أَنه جزم على أَن الْأَمر للْوُجُوب فِي سَائِر كتبه
وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك إِن مُوجب مطلقه الْإِبَاحَة وَقَالَ بَعضهم مُوجبه النّدب
أما الواقفون فَيَقُولُونَ قد صَحَّ اسْتِعْمَال هَذِه الصِّيغَة لمعان مُخْتَلفَة كَمَا بَينا فَلَا يتَعَيَّن شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيل لتحَقّق الْمُعَارضَة فِي الِاحْتِمَال وَهَذَا فَاسد جدا فَإِن الصَّحَابَة امتثلوا أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا سمعُوا مِنْهُ صِيغَة الْأَمر من غير أَن اشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَو لم يكن مُوجب هَذِه الصِّيغَة مَعْلُوما بهَا لاشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَا يُقَال إِنَّمَا عرفُوا ذَلِك بِمَا شاهدوا من الْأَحْوَال لَا بِصِيغَة الْأَمر لِأَن من كَانَ غَائِبا مِنْهُم عَن مَجْلِسه اشْتغل بِهِ كَمَا بلغه صِيغَة الْأَمر حسب مَا اشْتغل بِهِ من كَانَ حَاضرا ومشاهدة الْحَال لَا تُوجد فِي حق من كَانَ غَائِبا وَحين دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ فَأخر الْمَجِيء لكَونه فِي الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ أما سَمِعت الله يَقُول {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ} فاستدل عَلَيْهِ بِصِيغَة الْأَمر فَقَط وَعرف النَّاس كلهم دَلِيل على مَا قُلْنَا فَإِن من أَمر من تلْزمهُ طَاعَته بِهَذِهِ الصِّيغَة فَامْتنعَ كَانَ ملاما معاتبا وَلَو كَانَ الْمَقْصُود لَا يصير مَعْلُوما بهَا للاحتمال لم يكن معاتبا
ثمَّ كَمَا أَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمعَانِي فَكَذَلِك كل عبارَة تكون لِمَعْنى خَاص بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض وَصِيغَة الْأَمر أحد تصاريف الْكَلَام فَلَا بُد من أَن يكون لِمَعْنى خَاص فِي أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض مغير لَهُ بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام
وَمن يَقُول بِأَن مُوجب مُطلق الْأَمر الْوَقْف لَا يجد بدا من أَن يَقُول مُوجب مُطلق النَّهْي الْوَقْف أَيْضا للاحتمال فَيكون هَذَا قولا باتحاد موجبهما وَهُوَ بَاطِل وَفِي القَوْل بِأَن مُوجب الْأَمر الْوَقْف إبِْطَال حقائق الْأَشْيَاء وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرُوهُ نعتبره فِي أَن لَا نجعله محكما بِمُجَرَّد الصِّيغَة لَا فِي أَن لَا يثبت مُوجبه أصلا أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره إِن شِئْت فافعل كَذَا وَإِن شِئْت فافعل كَذَا كَانَ مُوجب كَلَامه التَّخْيِير عِنْد الْعُقَلَاء وَاحْتِمَال غَيره وَهُوَ الزّجر قَائِم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر}