ثامنًا: عند انسحاب خالد بن الوليد بمن معه من جند المسلمين في معركة مؤتة ودخولهم المدينة المنورة، جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم في سبيل الله، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بالفرار ولكنَّهم الكرار إن شاء الله تعالى"، وجه الدلالة في هذا الخبر أنَّ خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين انسحبوا من ملاقاة العدوة تخلصًا من الأذى والضرر، فعابهم المسلمون في المدينة ووصفوهم بالفرَّار، ولكن سيد العارفين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى غير ما ينظرون، ورأى في انسحابهم الناجح نوعًا من النصر لتخلُّصهم من القتل ومن أذى المشركين واحتمال أسرهم، وأن انسحابهم كتحوّل الجند في ساحة المعركة من جهة أخرى، فدلَّ ذلك على أنَّ دفع البلاء أمر مطلوب إذا أمكن المسلم دفعه، وأن تسليم المسلم نفسه للأذى والضرر حيث يمكنه الخلاص ليس بالأمر الممدوح، بل ولا المشروع.
تاسعًا: هاجر المسلمون من مكّة إلى الحبشة فرارًا بدينهم وتخلصًا من أذى قريش، فدلَّ ذلك على جواز دفع البلاء والأذى، وعدم الاستسلام له بحجة تحمُّل الأذى في سبيل الله؛ لأن نفس المسلم ليست ملكه، وإنما هي ملك الله، فلا يجوز إتلافها بلا فائدة تعود إلى الإسلام، وليس من الفائدة أن يقول الناس: ما أثبت هذا الداعي وأجرأه على تحمُّل الأذى في سبيل الله، بل قد يكون تحمُّل الأذى بهذا الدافع ولهذا الغرض رياءً وطلبًا للسمعة والجاه عند الناس، وهذا لا يجوز.
عاشرًا: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ير بأسًا من عون عمه أبي طالب -وكان على دين قومه- في دفع ما يستطيعه من أذى قريش عنه، ولما ماتت خديجة وعمه في عام واحد سمَّاه "عام الحزن"، وقال: "ما نالت قريش مني شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب"؛ لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حامٍ له، ولا ذابّ عنه غيره1.
وعندما رجع -عليه الصلاة والسلام- من الطائف، وانتهى إلى حراء، بعث رجلًا من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلِّغ رسالة ربه فأجاره، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة فأقام بها، وجعل يدعو إلى الله2.