وهذا التسليم المطلق للّه، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين. كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم (?).
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا».فلا تسلطهم علينا. فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون: لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيرا ما تحيك في الصدور، حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان - لحكمة يعلمها اللّه - في فترة من الفترات. والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو اللّه ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور. وبقية الدعاء: «وَاغْفِرْ لَنا» .. يقولها إبراهيم خليل الرحمن. إدراكا منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوي الذي يكافئ به نعم اللّه وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده.
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء: «رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. العزيز: القادر على الفعل، الحكيم: فيما يمضي من تدبير.
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» ..
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر. هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم، ويجدون فيها أسوة تتبع، وسابقة تهدي. فمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة .. وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين.