ثم يمضي في التنديد بهم وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج، وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ؟».
وقد جادلوا في أمر عيسى عليه السلام كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب اللّه ليحكم بينهم، ثم تولوا وهم معرضون .. وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم، ووجود كتبهم ودياناتهم .. فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سندا شكليا .. فهو الجدل إذن لذات الجدل. وهو المراء الذي لا يسير على منهج، وهو الغرض إذن والهوى ..
ومن كان هذا حاله فهو غير جدير بالثقة فيما يقول. بل غير جدير بالاستماع أصلا لما يقول! حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه، ونزع الثقة منهم ومما يقولون، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها اللّه. فهو - سبحانه - الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم. وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا. وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..
فيؤكد ما قرره من قبل ضمنا من أن إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهوديا ولا نصرانيا. وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده. ويقرر أنه كان مائلا عن كل ملة إلا الإسلام. فقد كان مسلما .. مسلما بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه ..
«وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» .. ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير:
يشير أولا إلى أن اليهود والنصارى - الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة - مشركون .. ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا. ولكن حنيفا مسلما! ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر. فلا يلتقيان. الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه، وكل مقتضياته. ومن ثم لا يلتقي مع لون من ألوان الشرك أصلا.