قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (99) سورة الصافات ..
هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففا من كل شي ء، طارحا وراءه كل شي ء، مسلما نفسه لربه لا يستبقي منها شيئا. موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدا لا عقب له وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! (?)
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (97) سورة النساء ..
إن القرآن يعالج نفوسا بشرية ويهدف إلى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة .. لذلك يرسم هذا المشهد .. إنه يصور حقيقة. ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية ..
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية.