وقد تجد في المعلقة تنقلاً في الخيال وفي رسم الصور الشعرية، ولكن لا ضير في ذلك، لأن الشعر فن والفنون تأبى أن تخضع لقيود المنطق والفلسفة وحريتها في التعبير والتصوير هو سر جمالها وخلودها وفق ذلك فإن الشعر صورة للحياة العربية في سذاجتها وبساطتها فضلاً عن أثر الارتجال والبديهة في نظم الشعر وإنشاده وخاصة في العصر الجاهلي.

وفي المعلقة وصف لما يحبه العربي من مظاهر الجمال في المرأة وفي الفرس وفيها بيان مفصل لزينة المرأة وترفها وفيها نواة للقصص الشعري وخاصة في الغزل، مما نهج نهجه عمر بن أبي ربيعة ثم بشار وأبو نواس. وليس فيها أثر للمدح لأن شخصية امرئ القيس العظيمة أرفع من المدح، ولأن المعلقة لم تنظم إلا لوصف ذكرياته ولهوه وترفه ومجونه، مما يرجع أنها نظمت في أيام صبواته وشبابه قبل أن يحمل عبء الأخذ بثأر والده، حيث تجدها خالية من ذكر الأحداث التي طافت به بعد ذلك. وتعدد الأعراض والفنون في القصيدة يتفق ونهج العرب والشعراء الجاهليين في صياغة قصائدهم؛ حيث كانوا يروحون عن أنفسهم وسامعيهم بهذا الاستطراد الجميل وبتعدد نواحي القصيدة ومراميها حتى تكون أشد أثراً وسحراً.

وروح الشاعرية في المعلقة متحدة متناسقة إلا في أبيات يضيفها بعض الرواة إليها وهي:

وقربة أقوام جعلت عصامها ... على كاهلي مني ذلول مرحل

وما بعده من أبيات، مما تخالف روحها روح المعلقة. والصحيح أن هذه الأبيات لتأبط شراً وأنكرها الكثير من الرواة، وقيل هي لامرئ القيس في عصر مشيبه وكهولته وأضيفت إلى المعلقة إضافة، فهي لا تمثل روحه في فترة شبابه اللاهية الماجنة التي نراها في معلقته.

وتمثل هذه المعلقة الحياة العربية في كثير من نواحيها المختلفة، كما تصور حياة امرئ القيس وترفه وروحه اللاهي المسرف في العبث والمجون أتم التصوير، فهي صورة جميلة واضحة لحياة الشاعر وقومه، وأثر أدبي كبير نستطيع أن نفهم منه الكثير من عادات العرب وأخلاقهم.

نشأ امرؤ القيس في بيت سؤدد ومجد ونعمة، فخب في سبل اللهو وذاق أفاويق الجمال والحب وقضى أيام شبابه في مغازلة الغيد الحسان؛ فكانت له معهن أيام وذكريات قص الكثير منها في هذه المعلقة، وما برح في لهوه ومجونه حتى ضاق به والده ذرعاً فأبعده عنه، فأقام مع أمثاله من أهل البطالة واللهو حتى قتل أبوه فذهبت سكرته وطالت حسرته، وهب للأخذ بثأره حتى قضى عليه أخيراً إسرافه في الانتقام.

ذلك هو امرؤ القيس قائد الشعراء في الجاهلية، وحامل لواء الشعر في ذلك العصر البعيد، والمفتن في أبواب الشعر وأغراضه، والمجلى في بيان أسرار الجمال واللهو وفي رقة الأسلوب وسحره، وفي جزالة اللفظ وأسره، وفي روائع التشبيه وبدائع الخيال، وفي ابتداع الكثير من المعاني الشعرية الطريفة التي قلده فيها سواء من الشعراء وتتناول المعلقة كثيراً من فنون الشعر، وتحوي الكثير من الأفكار المنوعة، ففيها بكاء لديار أحبابه في ثلاثة أبيات وتصوير لحيرته وذهوله يوم رحيلهن واستيقاف لأصحابه ليحملوا معه عبء الحزن والشجى في بيتين وفيها شرح للهوه وعبثه وقص لذكرياته وأشجانه مع محبوباته ووصف للجمال العربي وزينة المرأة في الجاهلية ولأثر الجمال وسحره في النفوس وذلك في عشرين بيتاً، وفيها مناجاة الليل وذكر لطوله وآلامه فيه في خمسة أبيات ووصف دقيق لفرسه في ثمانية عشر بيتاً، وللبرق والمطر ونشوة الطبيعة في عشرة أبيات فأبياتها تبلغ الستين أو تزيد وهي كلها في درجة عالية من الإحسان.

ويقول الزوزني في سبب إنشاد هذه القصة: "السبب في إنشادها هو قصة غدير دارة جلجل حيث كان امرؤ القيس يحب ابنة عمه عنيزة فتركها تستحم في هذا الغدير مع أتراب لها وجمع ملابسهن ثم لم يعطها لهن إلا بعد مرورهن أمامه عاريات، ثم ذبح لهن ناقته وقسم متاعه عليهن يحملنه وركب مع عنيزة في هودجها".

وقد بدأها ببكاء الديار بمطلع جميل ساحر ثم يستمر في وصف الديار وآثارها حتى يقول: وقوفاً بها صحبي على مطيهم.

ثم يصف ذكريات لهوه وعبثه وغزله. ثم يصف الليل وطوله، وطوله والفرس وقوته ويذكر الصيد الذي صاده وطهى الطهاة له وسط الصحراء ويصف البرق والمطر في عذوبة وسحر وجمال.

- 2 - وقال أيضاً:

ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015