ولمَّا أنهى الكلام على ما تعلَّق بالعارية على اختصار انتقل يتكلم على الوديعة فقال رحمه اللهَّ تعالى:
فَصْلٌ
في الوديعة
أي في بيان ما يتعلَّق بأحكام الوديعة، وهي لغة: الأمانة. واصطلاحًا: هي مالٌ وُكَّلَ على حِفْظِه. وحُكْمُها كالعارية على ما تقدَّم بيانه في ذلك، أي على الوجه الذي تقدَّم بيانه في العارية. والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمنت إلى أهلها" [النساء: 58] وقوله تعالى: "فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤد الذي أؤتمن أمنتهُ" [البقرة: 382] وخبر: "أدّ الأمانة إلى مَنِ ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنُ خانك" وأداء الأمانة من علاماتالإيمان، ومن عمل المؤمنين. وأمَّا الخيانة فهي من علامات النفاق وعمل الفساق، وأجمعت الأمّة علىحُسْن الإيداع.
قال رحمه اللَّه تعالى: "الْمُودِعُ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ وَالرَّدَّ، فَإِنْ قَبَضَها بِبَيَّنَةْ لَمْ يُقْبَلْ رَدُّهَا بِغَيْرِها: يعني كما ف يالرسالة: والمودع إن قال رَدَدْتُ الوديعة إليك صُدَّق، إلاَّ أن يكون قَبَضَها بإشهاد، وإن قال ذهبت فهو مُصَدَّق، أي لأنه أمين والأمين مصدَّق في التّلَفَ والرَّدَّ؛ لأن الأصل في الأمانة عدم الضمان لِما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان على مؤتَمَن" رواه الدارقطني، هذا إذا لم يكن متمًا، وإلاَّ فيَصْدُق بيمينه، فإن نَكَلَ ضَمِنَه. قوله فإن قَبَضَها ببيَّنة إلخ أي إذا أخذها ببينة مقصودة فلا يَصْدُق في دعوى الرَّدَّة إلاَّ ببيَّنة تشهد على الرَّدَّ للقاعدة المشهورة، وهي أن كلَّ مَنْ دُفِعَ إليه شيئ من قِراض أو وديعة على يد بيَّنة بقَصْدِ التوثق لا يَصْدُقُ في دعوى ردَّه إلاَّ ببيَّنة. والمراد بالبيَّنة المقصودة للتوثُّق هي التي يقول مُشهدها اشهدوا أني إنَّما أشهدت خوف دعوى الردَّ أو الجَحْد. وأمَّا إشهادها خوف الموت أو خوف