وَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ دِرْهَمِهِ وَلْيَتَصَدَّقْ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ وَخَبَرِ «مِنْ أَطْعَمَ جَائِعًا أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَمَنْ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ وَمَنْ كَسَا مُؤْمِنًا عَارِيًّا كَسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَخُضْرِ الْجَنَّةِ بِإِسْكَانِ الضَّادِ أَيْ ثِيَابِهَا الْخُضْرِ وَقَدْ يَعْرِضُ مَا تَحْرُمُ بِهِ الصَّدَقَةُ كَأَنْ يَعْلَمَ مِنْ آخِذِهَا أَنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي مَعْصِيَةٍ وَمَا تَجِبُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَأَنْ وَجَدَ مُضْطَرًّا وَمَعَهُ مَا يُطْعِمُهُ فَاضِلًا عَنْهُ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
(وَتَتَأَكَّدُ الصَّدَقَةُ فِي) شَهْرِ (رَمَضَانَ) وَالصَّدَقَةُ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِيمَا يَأْتِي لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» وَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ وَلِأَنَّ النَّاسَ فِيهِ مَشْغُولُونَ بِالطَّاعَةِ فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِمَكَاسِبِهِمْ فَتَكُونُ الْحَاجَةُ فِيهِ أَشَدَّ (وَ) فِي سَائِرِ (الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ) كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ الْعِيدِ لِفَضِيلَتِهَا (وَ) فِي (الْأَمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ) كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَشُمُولِ كَلَامِهِ لِغَيْرِهِمَا مِنْ زِيَادَتِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّصَدُّقَ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إلَيْهَا بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَدُّقَ فِيهَا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْهُ فِي غَيْرِهَا غَالِبًا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ ثُمَّ قَالَ وَفِي كَلَامِ الْحَلِيمِيِّ مَا يُخَالِفُهُ فَإِنَّهُ قَالَ وَإِذَا تَصَدَّقَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ تَحَرَّى بِصَدَقَتِهِ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَمِنْ الشُّهُورِ رَمَضَانَ (وَعِنْدَ الْمُهِمَّاتِ) مِنْ الْأُمُورِ كَغَزْوٍ وَحَجٍّ لِأَنَّهَا أَرْجَى لِقَضَائِهَا وَلِآيَةٍ {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] (وَ) عِنْدَ (الْمَرَضِ وَالْكُسُوفِ وَالسَّفَرِ) وَنَحْوِهَا (وَيُسْتَحَبُّ) اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا (التَّوْسِيعُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «امْرَأَتَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتَا لِبِلَالٍ سَلْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يُجْزِئُ أَنْ نَتَصَدَّقَ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا فَقَالَ نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ» وَلِخَبَرِ «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ «عَائِشَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي فَقَالَ إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا» (لَا سِيَّمَا) فِي (عَشْرِ آخِرِهِ) لِأَنَّ فِيهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا عَدَاهُ وَإِضَافَةُ عَشْرٍ إلَى آخِرِهِ مِنْ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ كَشَجَرِ أَرَاك
(فَصْلٌ وَكَانَتْ) صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ (حَرَامًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) تَشْرِيفًا لَهُ وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ فِي الْبَابِ السَّابِقِ (وَيَحِلُّ لِذَوِي الْقُرْبَى) لِقَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقِيلَ لَهُ أَتَشْرَبُ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ إنَّمَا حَرُمَ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَمِثْلُهُمْ مَوَالِيهمْ بَلْ أَوْلَى (وَلِلْأَغْنِيَاءِ) فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «تَصَدَّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى غَنِيٍّ» وَفِيهِ لَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (وَالْكُفَّارِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» (وَيُكْرَهُ لِلْغَنِيِّ التَّعَرُّضُ لَهَا) .
قَالَ الْإِسْنَوِيُّ وَأَخْذُهَا أَيْ وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا لَكِنْ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ تَقْتَضِي خِلَافَهُ فَإِنَّهُ قَالَ وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا (وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ) أَخْذُهَا (إنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ) وَعَلَيْهِ حَمَلُوا خَبَرَ «الَّذِي مَاتَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَتَرَكَ دِينَارَيْنِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيَّتَانِ مِنْ نَارٍ» وَيُعْتَبَرُ فِي حِلِّهَا لَهُ أَنْ لَا يَظُنَّ الدَّافِعُ فَقْرَهُ فَإِنْ أَعْطَاهُ ظَانًّا حَاجَتَهُ فَفِي الْإِحْيَاءِ إنْ عَلِمَ الْآخِذُ ذَلِكَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَيْهِ لِعِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ أَوْ نَسَبِهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْوَصْفِ الْمَظْنُونِ (أَوْ سَأَلَ) سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا بِالْمَالِ أَمْ بِالْكَسْبِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «مَنْ سَأَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ تَكَثُّرًا أَيْ بِلَا حَاجَةٍ بَلْ لِتَكْثِيرِ مَالِهِ إنَّمَا سَأَلَ جَمْرًا» أَيْ يُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ) الصَّدَقَةُ (سِرًّا) لِأَيَّةٍ {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خَبَرِ السَّبْعَةِ الَّذِي يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَدْرِي شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ» نَعَمْ إنْ أَظْهَرَهَا وَلَمْ يَقْصِدْ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً بَلْ لِيَقْتَدِيَ بِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَأَذَّى الْآخِذُ بِهِ فَإِنْ تَأَذَّى بِهِ فَالْإِسْرَارُ أَفْضَلُ قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ (وَ) أَنْ يَكُونَ (مِمَّا يُحَبُّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (وَ) أَنْ تَكُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَأَيَّامِ الْعِيدِ إلَخْ) وَعَاشُورَاءَ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ نَفَقَهَا وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ
(قَوْلُهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «تَصَدَّقَ اللَّيْلَةَ» إلَخْ) وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «مَا أَتَاك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُسْتَشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْ» وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ صَدَقَةٌ إذَا قَصَدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابَهُ فَإِنْ قَصَدَ بِهَا الِامْتِنَانَ وَالْمُلَاطَفَةَ كَانَتْ هِبَةً وَأَنْ تُؤَثِّرَ فِي حَالِ آخِذِهَا لِيَظْهَرَ نَفْعُهَا فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَفْعٌ وَمَا لَا نَفْعَ فِيهِ لَا ثَوَابَ لَهُ فَلَا تَكُونُ صَدَقَةً (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا دُفِعَ إلَيْهِ لِعِلْمِهِ إلَخْ) وَكَذَا إنْ كَانَ فَاسِقًا فِي الْبَاطِنِ لَوْ عَلِمَ بِهِ الْمُعْطِي لَمَا أَعْطَاهُ (قَوْلُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا بِالْمَالِ أَمْ بِالْكَسْبِ لِخَبَرٍ إلَخْ) وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ لِأَنَّهُ طَلَبٌ مُبَاحٌ كَطَلَبِ الْعَارِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَالذَّمُّ الْوَارِدُ فِي الْإِخْبَارِ يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَبِ مِنْ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ. اهـ. وَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّافِعِيُّ هَذَا الْغِنَى وَقَالَ الصَّيْمَرِيُّ إنَّهُ عَلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ عَلَى حَسَبِ الْبُلْدَانِ وَالْمَعَاشِ وَالْأَسْفَارِ وَمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ مَا سَأَلَ النَّاسَ أَحَدٌ وَهُوَ غَنِيٌّ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ قَالَ كُدُوحٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا غِنَاهُ قَالَ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا» قَالَ الصَّيْمَرِيُّ فَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ كَانَ يُسْتَغْنَى الرَّجُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُبَّمَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ غِنًى بِدُونِ هَذَا الْقَدْرِ وَقَدْ لَا يُسْتَغْنَى بِأَضْعَافِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ رَ.
(قَوْلُهُ وَالْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ سِرًّا) لَا يَكْفِي فِي الِاسْتِحْبَابِ الدَّفْعُ سِرًّا بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَحَدَّثَ