زهدنا في الطعام والشراب ليس قبضًا وإمساكًا بالحفظ والادخار، بل بسطًا وسخاء بالبذل والإيثار: لا تسد أيها الصائم جوعتك، ولا تنقع غلتك فحسب، ولكن أطعم الجائع واسق الظمآن، وهذا هو الصوم كما فهمه إمامنا الأعظم صلوات الله عليه، فقد كان أجود ما يكون في رمضان، حتى إنه كان فيه أجود من الريح المرسلة.
وما زكاة الفطر في آخر رمضان إلا الحلقة الختامية، والمظهر العلني الجماعي لهذه الحركات النفسية الفردية، التي تحولت فيها فضيلة الصبر، إلى فضيلة الشكر، اتباعا لإرشاد القرآن الكريم حين يقول: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الرباني؛ فذلك أن الإِسلام فتح فيه للطاعة مسالك مسلوكة، ورسم لها سُبُلًا ذُلُلًا، تسبيح وتحميد، تكبير وتمجيد: {لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، تضرع وابتهال، ودعاء وسؤال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، ركوع وسجود، وقيام وتشمير ونهوض: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (?)، وما الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان إلا نهاية الشوط في السير، إقبالا على الله وانقطاعا بالكلية إليه: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
ألا وإن ذِروة الأمر وسِنامُه في هذا الجانب الرباني، إنما هو في مناجاة الله بكلامه، وفي مدارسة كتابه، كما كان يفعل الرسول المصطفى من البشر، والرسول المصطفى من الملائكة، إذ كانا يتدارسان القرآن في رمضان في كل عام، ولأمر ما نَوَّه الله بهذه الصلة الوثيقة بين رمضان وبين القرآن، وجعلها