سيأتيه، بقي حرصه وتعبه وكده ضائعًا، والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك، فهذه الأمور الثلاثة تُسَهِّل على العبد الزهد فيها، وتثيت قدمه في مقامه، والله الموفق لمن يشاء.

النوع الرابع من أنواع الزهد: الزهد في نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشَقُّها، وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد يسهل عليه الزهد في الحرام لسوء مغبته وقبح ثمرته، وحمايةً لدينه وصيانةً لإيمانه، وإيثارًا للذة والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفجار والفجرة، وحميَّةً من أن يستأثر لعدوه، ويسهل عليه الزهد في المكروهات وفضول المباحات: علمُه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم.

ويسهِّل عليه زهده في الدنيا معرفته بما ورائها، وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأعلى، وأما الزهد في النفس فهو ذَبحُها بغير سكتتين، وهو نوعان:

أحدهما: وسيلةٌ وبداية، وهو أن تميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها، قد سَبَّلت عِرْضَها ليومِ فقرها وفاقتها، فهي أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذُمَّت، بلى هي عندك أخسُّ مما قيل فيها، أو تُرَفِّهها عما فيه حظُّك وفلاحك، وإن كان صعبًا عليها، وهذا وإن كان ذبحًا لها وإماتةً عن طباعها وأخلاقها، فهو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا ألبتة.

وهذه العقبة هي آخرُ عقبةٍ يشرف منها العبد على منازل المقربين، وينحدر منها إلى وادي البقاء، ويشربُ من عين الحياقس، ويخلِّص روحَه من سجون المحن والبلاء وأَسْرِ الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق، فيا قرة عينها به، ويا نعيمها وسرورهما بقربه، ويا بهجتها بالخلاص من عدوها، واللجوء إلى مولاها ومالك أمرها ومتولي مصالحها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015