بما رُوي عن حسان بن ثابت1 أنشد النابغة2 قصيدته التي يذكر فيها: [الطويل]
لَنَا الْجَفَنَات الغرُّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافنا يقطرنَ من نجدةٍ ما
فَلَمْ يرَ فيه اهتزازًا، فعاتبه على ذلك؛ فقال له النابغة: قد أخطأت في بيت واحد في ثلاثة مواضع، وأغضيتُ عنها، ثُمَّ جئت تلومني!! فقال له حسان: /و/3 ما تلك المواضع؟ فقال له:
الأول: أنك قلت: الْجَفَنَات وهي تدلُ على عدد قليل، ولا فخر لك أن يكون لك في ساحتك ثلاث جفنات أو أربع.
والثاني: أنك قلت: "يلمعن" واللمعة بياض قليل، فليس فيه كبير شأن.
والثالث: أنك قلت: "يقطرن" والقطرة تكون للقليل، فلا يدل ذلك على فرط نجدة، وكان يجب أن تقول: "الجِفَان ويَسِلن"؛ وهذا -عندي- ليس بصحيح؛ لأنَّ هذا الجمع يجيء للكثرة، كما يجيء للقلة؛ قال الله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} 4 والمراد به الكثرة لا القلة، والذي يدلّ على ذلك: أنه جمع صحيح، فصار بمنزلة قولهم: "الزيدون، والعمرون" (وكما أن قولهم: الزيدون، والعمرون) 5 يكون للكثرة والقلة، فكذلك هذا الجمع، وأمّا ما روى النابغة وحسان، فقد كان أبو علي الفارسي6 يقدح فيه، ولو صح، فيحتمل أن يكون النابغة قصد ذكر شيءٍ يدفع عنه7 ملامة حسان، ويعارضها في الحال.
[عِلَّة جواز الاكتفاء بجمع القلة عن جمع الكثرة والعكس]
فإن قيل: فَلِمَ جاز أن يُكتفى لله ببناء القلة عن بناء الكثرة، وببناء الكثرة