من أكل الطعام الذي لم يصلح بالملح، ولم تنتف عنه المضار التي من شأن الملح أن يزيلها، وعلى ذلك جاء في صفتهم أنّ: «حبّهم إيمان وبغضهم نفاق». هذا، ولا معنى لصلاح الرجل بالرجل إلّا صلاح نيّته واعتقاده، ومحال أن تصلح نيّتك واعتقادك بصاحبك وأنت لا تراه معدن الخير ومعانه، وموضع الرّشد ومكانه ومن علمته كذلك، مازجتك محبّته لا محالة، وسيط ودّه بلحمك ودمك، وهل تحصل من المحبّة إلّا على الطاعة والموافقة في الإرادة والاعتقاد، قياسه قياس الممازجة بين الأجسام، ألا تراك تقول: «فلان قريب من قلبي»، تريد الوفاق والمحبّة.
وعلى هذه الطريقة جرى تمثيل «النحو» في قولهم: «النحو في الكلام، كالملح في الطعام، إذ المعنى أن الكلام لا يستقيم ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد، إلّا بمراعاة أحكام النحو فيه، من الإعراب والترتيب الخاصّ، كما لا يجدي الطعام ولا تحصل المنفعة المطلوبة منه، وهي التغذية، ما لم يصلح بالملح.
فأمّا ما يتخيّلونه من أن معنى ذلك: أن القليل من النحو يغني، وأن الكثير منه يفسد الكلام كما يفسد الملح الطعام إذا كثر فيه، فتحريف، وقول بما لا يتحصّل على البحث، وذلك أنه لا يتصوّر الزيادة والنقصان في جريان أحكام النحو في الكلام. ألا ترى أنه إذا كان من حكمه في قولنا: «كان زيد ذاهبا»، أن يرفع الاسم وينصب الخبر، لم يخل هذا الحكم من أن يوجد أو لا يوجد، فإن وجد فقد حصل النحو في الكلام، وعدل مزاجه به، ونفي عنه الفساد، وأن يكون كالطعام الذي لا يغذو البدن وإن لم يوجد فيه فهو فاسد كائن بمنزلة طعام لم يصلح بالملح، فسامعه لا ينتفع به بل يستضرّ، لوقوعه في عمياء وهجوم الوحشة عليه، كما يوجبه الكلام الفاسد العاري من الفائدة.
وليس بين هاتين المنزلتين واسطة يكون استعمال النحو فيها مذموما وهكذا القول في كلّ كلام، وذلك أن إصلاح الكلام الأول بإجرائه على حكم النحو، لا يغني عنه في الكلام الثاني والثالث، حتى يتوّهم أن حصول النحو في جملة واحدة من قصيدة أو رسالة يصلح سائر الجمل، وحتى يكون إفراد كل جملة بحكمها منه تكريرا له وتكثيرا لأجزائه، فيكون مثله مثل زيادة أجزاء الملح على قدر الكفاية.
وكذلك لا يتصور في قولنا: «كان زيد منطلقا»، أن يتكرّر هذا الحكم ويتكثّر على هذا الكلام، فيصير النحو كذلك موصوفا بأن له كثيرا هو مذموم، وأن المحمود منه القليل. وإنما وزانه في الكلام وزان وقوف لسان الميزان حتى ينبئ عن مساواة ما