قال في فاتحة كتابه هذا وهو من أحسن ما كتب في البلاغة بعد عبد القاهر ما نصه:
«وأول من أسس من هذا الفن قواعده وأوضح براهينه، وأظهر فرائده ورتب أفانينه، الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزهاره من أكمامها. وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه كتابان أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز. والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على شيء منهما. مع شغفي بحبهما وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما» (?).
وأما مكانة هذا الكتاب وبيان ما يمتاز به على كتب البيان فحسبي في بيانها عرضه على الأنظار مع التنبيه على
مسألتين نافعتين (إحداهما) أن العلم هو صورة المعلوم مأخوذة عنه بواسطة الإدراك كما تؤخذ الصورة الشمسية بالآلة المعروفة فإن كان المعنى المنتزع من الجزئيات قانونا كليا يرشد إليها فهو القاعدة. وإن كان صورة تناسبها وتقربها من الفهم فهو المثل. (والثانية) أن القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، والأمثلة والشواهد صور تفصيلية لها. والتعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة بالصورة المجملة، إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل. وبهذه الطريقة يجمع بين العلم والعمل الذي يثبت به العلم، وهي طريقة عبد القاهر في كتابه هذا وكتاب دلائل الإعجاز، على أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى كله من آيات البلاغة فهو يعطيك علمها بمعانيه، وعملها بمبانيه، وبهذه المميزات يفضل هذا الكتاب جميع ما بين أيدينا من كتب الفن لأنها إنما تقتصر على سرد القواعد والأحكام بعبارات اصطلاحية، تنكرها بلاغة الأساليب العربية. ولا تذكر من الشواهد والأمثلة إلا القليل النادر، الذي أدلى به السابق إلى اللاحق والأول إلى الآخر.
لهذا بادر الإمام، مفتي الديار المصرية في هذه الأعوام، إلى تدريس الكتاب في الأزهر الشريف عقيب شروعنا في طبعه فأقبل على حضور درسه مع أذكياء الطلاب كثيرون من العلماء والمدرسين وأساتذة المدارس الأميرية. وقد قال أحد فضلاء هؤلاء