ظهر ضعف اللغة في القرن الخامس، وكانت في ريعان شبابها، وأوج عزها وشرفها، وكان أول مرض ألم بها الوقوف عند ظواهر قوانين النحو، ومدلول الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، والانصراف عن معاني الأساليب، ومغازي التركيب، وعدم الاحتفال بتصريف القول ومناحيه، وضروب التجوز والكناية فيه- وهذا ما بعث عزيمة الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام علوم اللغة في عصره إلى تدوين علم البلاغة، ووضع قوانين للمعاني والبيان،

كما وضعت قوانين النحو عند ظهور الخطأ في الإعراب. فوضع هذا الكتاب في البيان، ومن فاتحته يتنسم القارئ أن دولة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره، واستبدت على المعاني، وأنه يحاول بكتابه تأييد المعاني ونصرها، وتعزيز جانبها وشد أزرها.

كتب قبل عبد القاهر في مسائل من البيان بعض البلغاء كالجاحظ وابن دريد وقدامة الكاتب، ولكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن جعلوه فنا مرفوع القواعد مفتح الأبواب كما فعل عبد القاهر من بعدهم فهو واضع علم البلاغة كما صرح به بعض علمائها، وإن لم يذكر له هذه المنقبة المؤرخون الذين رأينا ترجمته في كتبهم، حتى أن ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي هذب الفن بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السكاكي، وما كان السكاكي إلا عيالا على عبد القاهر، تلا تلوه، وأخذ عنه، مع المخالفة في شيء من الترتيب والتبويب، ولكنه لم يسلم من التكلف في بعض عباراته، والتعقيد في بعض منازعه، فإذا جاز لنا أن نقول: إنه فاق لتأخره بالترتيب المعلوم، وبما حرره من الحدود والرسوم. فإننا لا ننسى من فضل المتقدم سلامة عبارته، وصفاء ديباجته، وغوصه على أسرار الكلام، ووضع دررها في أبدع نظام.

كان السكاكي وسطا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعميات والألغاز، فضاعت حدود بتلك الحدود. ودرست رسومه بهاتيك الرسوم (?)، وكان من أثر فساد ذوق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015