الجهل كأنه موتٌ، على معنى أن فائدة الحياة والمقصود منها هو العلم والإحساس، فمتى عَدِمَهما الحيُّ فكأنه قد خرج عن حُكمْ الحيّ، ولذلك جُعل النَّوم موتاً، إذ كان النائم لا يشعر بما بحضرته، كما لا يشعر الميِّت
والدرجة الأولى في هذا أن يقال: فلان لا يعقل وهو بهيمة وحمار وما أشبه ذلك، مما يحطُّه عن معاني المعرفة الشريفة، ثم أن يقال: فلان لا يعلم ولا يَفْقَهُ ولا يحسُّ، فيُنفَى عنه العلم والإحساس جملةً لضعف أمره فيه، وغلبة الجهل عليه، ثم يُجعَل التعريضُ تصريحاً فيقال: هو ميّتٌ خارجٌ من الحياة وهو جماد، توكيداً وتناهياً في إبعاده عن العلم والمعرفة، وتشدُّداً في الحكم بأنْ لا مطمع في انحسار غَيَاية الجهل عنه، وإفاقته مما به من سَكْرة الغيّ والغَفْلة وأن يُؤثِّر فيه الوعظ والتنبيهُ، ثم لما كان هذا مستقراً في العادة، أعني جَعْلَ الجاهِل ميِّتاً، خرج منه أن يكون المستحقُّ لصفة الحياة هو العالمَ المتيقظ لوَجْه الرُّشد، ثم لمّا لم يكن علمٌ أشرف وأعلى من العِلم بوحدانية الله تعالى، وبما نزّله على النبيّ صلى الله عليه وسلم، جُعل من حصل له هذا العلم بعد أن لم يكن، كأنه وَجَد الحياة وصارت صفةً له، مع وجود نور الإيمان في قلبه، وجُعل حالته السابقةُ التي خلا فيها من الإيمان كحالة الموت التي تُعدَم معه الحياة، وذلك قوله تعالى: " أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ " " الأنعام: 221 "، وأشباه ذلك، من هذا الباب قولهم: فلان حيٌّ وحيُّ القلب يريدون أنه ثاقبُ الفهم جيِّد النظر، مستعدٌّ لتمييز الحق من الباطل فيما يَرِد عليه، بعيدٌ من الغفلة