فاستعارةُ القوم ها هنا، وإن كانت في الظاهر لا تفيد أكثر من معنى الجمع، فإنها مفيدة من حيث أراد أن يعطيها شَبَهاً مما يعقل، على أن هذا إذا حقّقنا في غير ما نحن فيه وبصدده في هذا الفصل، وذلك أنه لم يجتلب الاسمَ المخصوصَ بالآدميين حتى قدَّم تنزيلها منزلتَهم فقال " هم "، فأتى بضمير مَنْ يعقل، وإذا كان الأمر كذلك، كان القوم جارياً مجرى الحقيقة، ونظيره أنك تقول: أين الأسودُ الضّارِية؟ وأنت تعني قوماً من الشجعان، فيلزم في الصفة حكم ما لا يعقل، فتقول: الضارية، ولا تقول الضارون ألبتة، لأنك وضعتَ كلامك على أنك كأنك تحدِّث عن الأسود في الحقيقة. وعلى هذه الطريقة ينبغي أن يُجْرى بيت المتنبي:
زُحَلٌ، عَلَى أنّ الكواكب قومُه ... لو كان منكَ لكان أكرمَ مَعْشَرا
وإن لم يكن معنا اسمٌ آخر سابقٌ حكمَ ما يعقل للكواكب، كالضمير في قوله وهم قوم، وذلك أنّ ما يُفْصِح به الحال من قَصْده أنْ يَدّعِي للكواكب هذه المنزلة يجري مجرى التصريح بذلك، ألا ترى أنه لا يتّضح وجه المدح فيه إلا بدَعْوَى أحوال الآدميين ومَعارفهم للكواكب، لأنه يفاضل بينه وبينها في الأوصاف العقلية بدلالة قوله " لكان أكرمَ مَعْشَراً "، ولن يُتحَصَّل ثبوتُ وصفٍ شَرِيف معقولٍ لها ولا الكرمِ على الوجه الذي يُتعارَف في الناس حتى تُجعَل كأنها تعقل وتُميز، ولو كانت المفاضلةُ في النور والبهاء وعلوِّ المحلِّ وما شاكل ذلك، لكان لا يلزم حينئذ ما ذكرتُ، وحقُّ القول في هذا القبيل أعني ما يُدَّعَى فيه لما لا يعقل العقل فصلٌ يُفرَد به، ولعله يجيءُ في موضعه بمشيئة الله وتوفيقه.