وإن كان مما ينتهي إليه المُتَكلِّم بنظرٍ وتدبُّر، وَيَنَالُه بطلبٍ واجتهاد، ولم يكن كالأوّل في حضوره إياه، وكونه في حكم ما يقابله الذي لا معاناةَ عليه فيه، ولا حاجةً به إلى المحاولة والمزاولةِ والقياس والمباحثة والاستنباط والاستثارة، بل كان من دُونه حجابٌ يحتاج إلى خَرْقِه بالنظر، وعليه كِمٌّ يفتقر إلى شَقَّه بالتفكير، وكان دُرّاً في قَعر بحر لا بدّ لهُ من تكلُّف الغَوَص عليه، وممتنعاً في شاهقٍ لا ينالُه إلاّ بتجشّم الصعود إليه وكامناً كالنار في الزَّند، لا يظهر حتى تقتدحه، ومُشابكاً لغيره كعُرُوق الذهب التي لا تُبدِي صَفْحتها بالهُوَيْنَا، بل تُنال بالحَفْرِ عنها وتعرِيقِ الجبين في طلب التمكن منها. نعم إذا كان هذا شأنُه، وهاهنا مكانه وبهذا الشرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يُدَّعى فيه الاختصاصُ والسَّبق والتقدُّم والأوَّلية، وأن يُجعَل فيه سَلَفٌ وخَلَفٌ، ومُفيد ومستفيد، وأَن يُقضَى بين القائلَين فيه بالتفاضُل والتبايُن، وأنّ أحدَهما فيه أكملُ من الآخر، وأنّ الثاني زاد على الأوَّل أو نَقَص عنه، وترقَّى إلى غايةٍ أبعد من غايته، أو انحطّ إلى منزلةٍ هي دون منزلته. واعلم أن ذلك الأوّل الذي هو المشتَرك العاميّ، والظاهر الجليّ، والذي قلتُ إنّ التفاضلَ لا يدخله، والتفاوتَ لا يصحّ فيه، إنما يكون كذلك ما كان صريحاً ظاهراً لم تلحقه صنعة، وساذَجاً لم يُعمَل فيه نقش فأَمَّا إذا رُكِّب عليه معنًى، ووُصل به لطيفة، ودُخل إليه من باب الكناية والتعريض، والرَّمز والتلويح، فقد صار بماغَُيّر من طريقته، واستُؤْنِف من صورته،