اسرار البلاغه (صفحة 304)

ولم أَر قَبْلي مَنْ مَشَى البدرُ نحوهُ ... ولا رَجُلاً قَامت تُعانقُه الأُسْدُ

يعرض صورة غير تلك الصُّوَر كلها، والاشتراك بينها عامّيٌّ لا يدخل في السَّرِقة، إذ لا اتِّفاق بأكثر من أن أثبت الشيء في جميع ذلك على خلاف ما يعرفه الناس، فأمّا إذا جئت إلى خصوصٍ ما يخرج به عن المتعارف، فلا اتفاق ولا تناسُب، لأن مكان الأعجوبة مرّةً أن تظلل شمسٌ من الشمس، وأخرى أن يُرَى للشمس مِثْلٌ لا يطلع من الغرب عند طلوعها من الشرق، وثالثةً أن تُرَى الشموس طالعةً من ديارهم، وعلى هذا الحد قوله ولم أرَ قبلي مَن مَشَى البدر نحوه، العجب من أن يمشيَ البدر إلى آدميٍّ، وتُعانِقَ الأسْد رجُلاً.

واعلم أن في هذا النوع مذهباً هو كأنه عكس مذهب التعجب ونقيضُه، وهو لطيف جدّاً، وذلك أن يُنظر إلى خاصيَّة ومعنًى دقيقٍ يكون في المشبَّه به، ثم يُثَبِّت تلك الخاصيّة وذلك المعنى للمشبّه، ويُتوصَّل بذلك إلى إيهام أن التشبيه قد خرج من البَيْن، وزال عن الوَهْم والعين أحسنَ توصُّلٍ وألطفَه، ويقام منه شِبهُ الحجّة على أنْ لا تشبيهَ ولا مجازَ، ومثال قوله:

لاَ تَعْجَبُوا من بِلَى غِلاَلته ... قد زرَّ أَزْرَاره على القمَر

قد عمد، كما ترى إلى شيء هو خاصية في طبيعةِ القمر، وأمرٌ غريب من تأثيره، ثم جَعلَ يُرِى أن قوماً أنكروا بِلَى الكتّان بسُرعة، وأنه قد أخذ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015