فعجز البيت الأول (وبغداد فيها للمشاة دروب) جاء من السهولة الفاضحة التي لا تبعد عن العامية الدارجة ولا تبعد عن حديث الناس اليومي، وما أظن أن صدر البيت الأول مفتقر إلى هذه التكملة المخلة ولكن تلك طريقة الزهاوي ومنهجه في النظم فقد أراد أن يحكي شيئاً، وليس أنسب للحكاية على طريقة سواء العامة من التزام هذه الكيفية.

إن الدكتور إبراهيم السامرائي لم ينظر إلى ألفاظ الزهاوي بمقياس الخطأ والصواب وإنما وصف هذه الألفاظ بأنها عامية دارجة ولكنّ الزهاوي كان له غرض من خلال هذا الاستعمال، فمن خلال هذا الانحراف أراد الزهاوي أن يحكي شيئاً ولكي يكون هذا الشيء شائعاً استخدم هذا التعبير الدارج.

ويستمر الدكتور إبراهيم السامرائي بتحليله اللغوي لشعر الزهاوي فيقول:

ويعطي الزهاوي للفيلسوف تعريفاً فيقول (53):

الفيلسوف الفيلسوف هو من تربته الصروف

أما الحياة فلا يكاد يـ------------فوته منها الطفيف

يمشي وحيداً لا يـ-------------رافقه عشير أو أليف

يطأ الرصيف بخفّّه فيكاد يخفيه الرصيف

وهذا التعريف لم يوضح شيئاً كثيراً من حقيقة الفيلسوف وربما وضحّ شيئاَ من صفات قائله. فلا أدري لٍِمً يمشي وحيدا لا يرافقه العشير، ولعن الله شيطان القافية الذي حبّب إليه (الرصيف) فاقتنصه وصنع له معنى لا حاجة به، وإن (الأليف) في بيته الثالث زيادة أريد بها الحفاظ على الوزن والقافية، وهذه هي السهولة المخلة الفاجعة، ثم يترك الشاعر فيلسوفه هذا ويضرب في موضوعات شتى كأن يتحدث عن المرأة فيقول:

ما أتعس الحسناء يمـ------لك أمرها الزوج الضعيف

فهناك جرح مهلك إلاّ إذا انقطع النزيف

وقد حكمت عليه القافية أن يستعمل النزيف ليسلم البناء عادلاً عن النزف الذي يقتضيه المقام، وقد سميت عدم العناية بالبناء والتركيب بأحكام المادة وإجادتها (سهولة).

من خلال ما تقدم نرى أن الدكتور إبراهيم السامرائي قد أشار إلى الكلمات غير الفصيحة التي استخدمها الزهاوي ولكنه لم يحكم عليها بالخطأ، فالشاعر – كما يرى السامرائي – له لغته الخاصة، وهو يهتدي إلى مواطن الجمال بالفطرة السليمة.

وهكذا نقد السامرائي لغة الشعراء المحدثين بمنهجه الوصفي، حيث أقرّ كثيرا من الألفاظ التي استعملها الشعراء من خلال استعمالها بسياق مميز أراده الشاعر، لأن اللغة عنده حاجة واستعمال وعلينا الاعتراف بهذه الاستعمالات الجديدة ومن الشعراء الذين مارسوا النقد اللغوي الدكتورة نازك الملائكة، ففي كتابها (قضايا الشعر المعاصر) وفي الفصل الثاني منه الموسوم (الناقد العربي والمسؤولية اللغوية) نجدها من النقاد المتشددين والمعارضين لنظريات النقد الأوربي فهي ترى أن النقاد العرب المعاصرين يتغاضون تغاضياً تاماً عن الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية فلا يشيرون إليها ولا يحتجون عليها وكأنهم بذلك يفترضون إن من حق أي إنسان أن يخرق القواعد الراسخة وأن يصوغ الكلمات على غير القياس الوارد، وأن يبتدع أنماطاً من التعابير الركيكة التي تخدش السمع المرهف، وكأن من واجب الناقد أن يوافق على ذلك كله موافقة تامة فلا يشير إلى الأغلاط ولا يحاول حتى أن يعطي تلك الأغلاط تحريجاً أو مساهمة. ولقد أصبح هذا التغافل هو القانون النافذ في كل نقد تنشره الصحف الأدبية.

إن الناقد المعاصر ينظر إلى هذه الأخطاء على أنها تجديد وإبداع للشاعر لكنّ الدكتورة نازك الملائكة ترى ذلك صورة من صور ازدراء الشاعر نفسه للغة وقواعدها. فالجذور الرئيسة لهذه الظاهرة تختبيء في شبه عقيدة موهومة وقع فيها الجيل العربي المعاصر مؤداها إن الاهتمام باللغة والحرص على قواعدها يدلان على جمود فكري في الأديب ويشيران إلى نقص في ثقافته الحديثة. ولعلّ الناقد العربي ملزم بأن يعترف اليوم بأنه بات يشعر بكثير من الحرج والاستحياء إذا ما همّ بتنبيه شاعر إلى كلمة مغلوطة أو قاعدة مخروقة في شعره، ليس ذلك لأن الناقد يقر الخطأ وإنما لأنه يخشى أن يقال عنه أنه ناقد رجعي لم يتصل بالتيارات الحديثة في النقد ولم يسمع بعد بأن المضمون أهم من الشكل أو أنه العنصر الأوحد في القصيدة التي ينقدها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015