قراءة الصحيحين، وقرأت أطرافاً من الكتب الستة والمشكاة وغيرها، وحصل لي منه السماع والإجازة والقراءة. ثم ارتحلت في رمضان سنة (1309هـ) إلى (بهوبال)، فقرأت فيها على الشيخ حسين بن محسن الأنصاري، وحصل لي منه القراءة والإجازة، وذكر الشيخ حسين في إجازته العامة أنه أخذ من علم الحديث بحظ وافر، … وقال: حضرت عند المولوي سلامة ابن المدرس في (بهوبال) وسمعت منه شيئاً من سنن ابن ماجه وغيرها، وحصل لي منه الإجازة، … وقدمت بلد (كلي شهير) وافداً على الشيخ العالم العامل المحدث، الشيخ محمد الهاشمي الجعفري، سنة (1310هـ) لطلب الحديث، فأول حديث سمعته منه الحديث المسلسل بالأولية، وقال الهاشمي: أجزته أن يروي عني جميع مروياتي، فإنه أهل لذلك» ().
ورحل شيخ شيوخنا العلامة سعد بن حمد بن عتيق (ت 1349هـ) ـ رحمه الله ـ إلى الهند لطلب علم الحديث وملاقاة كبار المحدثين فيه، يقول تلميذه العلامة سليمان بن حمدان: «ثم إنه تاقت نفسه إلى الرحلة في طلب العلم أُسوة بالأئمة الأعلام، فسافر إلى الهند لطلب الحديث والأخذ عن علمائها، فقدم (بهوبال) واجتمع فيها بالعلامة صديق حسن خان، صاحب التفسير المسمى (جامع البيان). وأخذ عن غيره من العلماء المقيمين بأرض الهند، مثل الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليماني، والشيخ نذير حسين، وغيرهما، وقرأ عليهما في علم الحديث، وطلب منهما الإجازة، فأجازاه بما تجوز لهما روايته، كما هو مذكور في إجازته» ().
ورحل أيضاً الشيخ العلامة عبد العزيز بن حمد بن عتيق (ت1359هـ) إلى الهند لطلب علم الحديث، يقول عنه الشيخ عبد الله البسام ـ رحمه الله ـ: «ثم سافر إلى الرياض عدة سنين طويلة، جاداً مجتهداً في طلب العلم على علماء نجد من ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم. ثم طمحت نفسه إلى طلب علم الحديث من مظانه في ذلك الوقت في (الهند) مع بُعد المسافة، وخوف الطريق وكثرة الأعداء، فسافر إلى الهند وأخذ الحديث الشريف بالأسانيد المتصلة، ومن أجلِّ من روى عنه الحديث، إمام المحدثين في وقته نذير حسين الدهلوي» ().
ورحل أيضاً الشيخ العلامة علي بن ناصر بن وادي ـ رحمه الله ـ
(ت1361هـ) إلى الهند أيضاً لطلب علم الحديث، يقول عنه الشيخ عبد الله البسام ـ رحمه الله ـ: «ثم رحل إلى الهند، ويرافقه في رحلته العلمية الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ،والشيخ فوزان السابق، وشرع في قراءة الحديث على علمائه، ومنهم العلامة المحدث الشيخ نذير حسين في (دلهي) ـ عاصمة الهند ـ فأخذ عنه سند المسانيد، كمسند الإمام أحمد، ومسند الطبراني وغيرهما. ثم رحل من عاصمة الهند إلى بلدة (بهوبال) للأخذ على علاَّمتها السلفي الشيخ صديق حسن…» ().
إن رحلة أهل العلم في نجد إلى بلاد الهند أو غيرها لطلب علم الحديث وملاقاة أهله، لها أثرها على طلبة العلم في منطقة نجد؛ فهي دافع للإلتفات إلى هذا العلم والعناية به.
ومما يدل أيضاً على معرفة أئمة الدعوة لعلم الحديث، تدريس بعضهم لكتب الحديث على طريقة المحدثين لا على طريقة الفقهاء.
وقد تمثل هذا في شخصية شيخنا الإمام المحدث عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ حيث كان الشيخ في دروسه شديد العناية بتدريس الكتب الستة، وكتب السنن والمسانيد، وغيرها من كتب الحديث وعلومه، وقد كانت طريقته في شرح هذه الكتب على طريقة أئمة الحديث، فمثلاً: إذا قُرئ عليه من (سنن النسائي) أو (جامع الترمذي)،يبدأ الشيخ بالكلام على منهج الكتاب، ثم يتكلم عن رجال الإسناد توثيقاً وتضعيفاً، ثم يحكم على الإسناد بالصحة أو الضعف، ويعتني ببيان درجة الحديث، وذكر العلل، وذكر الشواهد والمتابعات، إن احتاج إليها، وكل هذا من حفظه!
وإذا عرض للشيخ حديث فيه كلام، وأراد أن يتوسع في تخريجه، كلَّف بعض الطلاب ليقوم بذلك، فإذا انتهى الباحث من تخريج الحديث، أمره الشيخ بقراءته، ثم إذا انتهى ذكر الشيخ ما ترجح له في حال هذا الحديث.
وكذا يُقرأ على الشيخ (تقريب التهذيب) أو (تهذيب التهذيب)، إذا أشكل عليه الحكم على راوٍ من الرواة.
وهذه (الصناعة الحديثية) التي تحلت بها دروس الشيخ، قد تفرَّد بها على من كان في طبقته.
وبجانب عناية الشيخ بتدريس كتب الحديث وعلومه، ألف مؤلفات حديثية لها أهميتها، فقد ألف (حاشية على بلوغ المرام)، و (التحفة الكريمة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة والسقيمة)، وعلَّق على (تقريب التهذيب) وعلى غيره من كتب الحديث وعلومه.
واهتمام الشيخ وعنايته بعلم الحديث أمر ظاهر يعرفه من لازم الشيخ وحضر دروسه.
إن مما يجدر التنبيه إليه، أن علم الحديث في عصرنا هذا، أصبح علماً له من يختص به من أهل العلم في (نجد) وليس كما كان في السابق، وفي هذا يقول الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «…في الآونة الأخيرة ـ والحمد لله ـ بدأ الناس يهتمون بعلم الحديث، والنظر في سند الحديث ومتنه، والنظر في كلام أهل العلم فيه، فأصبح هناك اهتمام كبير في طلب علم الحديث، وهو أمر لا بد منه» ().
هذا ومن أهم أسباب عناية أهل العلم في (نجد) بعلم الحديث ـ خاصة في هذا العصر ـ ما يلي:
1 - أن أُصول منهج أئمة الدعوة يعتمد على الاجتهاد وعدم التقليد، وعلم الحديث أهم علوم الاجتهاد.
2 - اتصال أهل العلم ـ في منطقة نجد ـ بكبار المحدثين الذين يفدون إليهم من بعض الأمصار.
3 - ظهور كتب الحديث وعلومه، وانتشارها بين أواسط أهل العلم، وهذا بخلاف ما كان في السابق.
4 - تأثر طلبة العلم بالشخصية الحديثية عند الشيخ عبد العزيز بن باز، وبجانبه تأثرهم بالشيخ الألباني وقراءتهم لمؤلفاته.
هذا ومن ينظر بعين الإنصاف إلى الحركة العلمية في الديار النجدية، يرى أن حلقات العلم في المساجد، وفي بعض المؤسسات العلمية، لها عناية تامة بالحديث وعلومه، ودراسة بعض مسائله المشكلة، في الجرح والتعديل، وتعليل الأحاديث، والحكم عليها.
وقد ظهرت مؤلفات وردود حديثية لبعض أهل العلم، تدل صراحة على تمكنهم من هذا العلم.
وهذا كله ـ بإذن الله ـ مؤذن بخروج أكابر من المحدثين، وعسى أن يكون قريباً ().
¥