إذًا هذا الراوي فيه خلاف شديد، فلا يمكن أن يكون الإمام مسلم أخرج له لو كان يرى أنه كذاب، وهذا يدل على أن انتقاد أبي زرعة لهؤلاء الرواة الثلاثة من باب اختلاف الاجتهاد، لا يمكن أن نحتج بهذا التصرف من أبي زرعة أن مسلمًا أخرج لرواة ضعفاء يعلم هو نفسه أنهم ضعفاء، ولكن أخرج لهم وهو يرى أنهم أهل للرواية عنهم، وإن كان يعترف أنهم دون غيرهم في الضبط والإتقان.
وأقرب مثال على ذلك أحمد بن عيسى، فإِنَّ أحمد بن عيسى لو كان كلام أبي زرعة فيه صحيحًا لما جاز لمسلم أن يُخرج له؛ لا في الأصول ولا في المتابعات ولا في الشواهد، لو كان كذابًا، فإن الراوي الكذاب لا شك أنه بالاتفاق ليس من شرط كتب الصحاح، فمسلم والبخاري إخراجهما لهذا الرجل مع توثيق النسائي له واحتجاجه به، لا شك أنه يدل أن هذا الراوي فيه خلاف كبير.
--------------------------------------------------------------------------------
والحق يقال: إن القلب يميل إلى قبول هذا الراوي، ويكفي هذا الراوي أن يحتج به البخاري ومسلم والنسائي؛ على تشدده، وخاصة النسائي، وأذكر النسائي خاصة لأنه أولًا قد روى عن هذا الشيخ ولقيه بمصر، فهو ممن خَبَرَهُ خِبْرَةً تامة، أضف إلى ذلك أن النسائي ممن استقر في مصر، وهو من أعرف الناس بالمصريين، ومع ذلك قال عنه: لا بأس به، واحتج به في كتابه " السنن ".
فدل ذلك على أنه لا يمكن أن يقبل فيه أي كلام، وانظر إلى كلام أبي زرعة، كأن أبا زرعة يعتمد في ذلك على نقل بعض الناس من أهل مصر ولم يسم لنا هؤلاء الناس، ولا نعرف في مصر في زمن الإمام النسائي أعلم من النسائي، فالنسائي هو أعلم من كان في عصره على رأس الثلاثمائة كما يقول الإمام الذهبي، حتى إن الإمام الذهبي يقول: إنه لم يوجد على رأس الثلاثمائة أعلم من النسائي، وهو في درجة البخاري وأبي زرعة في العلم، فيقول: إنه يفوق في العلم الإمام مسلم وأبا داود والترمذي. ومع ذلك يوثق هذا الرجل أو يقول: لا بأس به. ويحتج به، وهو من أهل مصر، وهو شيخه، مع احتجاج البخاري ومسلم له في صحيحيهما مع إمامتهما وجلالتهما.
الذي أُخذ على هذا الراوي، يعني الذي ربما كان سبب ادعاء أنه كذاب: أنه قيل أنه يروي من كتب لم يسمعها.
--------------------------------------------------------------------------------
وهذا لا شك أنه ليس هو الوضع في المتون؛ فَرْقٌ بين أن يروي الإنسان من كتاب لم يسمعه وبين أن يكذب في المتن على النبي عليه الصلاة والسلام، يروي أحاديث لم يقلها النبي عليه الصلاة والسلام؛ هذا إن صحت هذه الدعوى، وأقصى ما يقال في هذا أنه كان يروي وجادة من الكتب، وليس هذا مما يقتضي الطعن، فما دام أنه عُدِّلَ من هؤلاء الأئمة الكبار: البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم، فإنه ليس من السهل أن نقبل فيه طعن، خاصةً بالتكذيب؛ لو أنه طعن بسوء الحفظ، لو أنه بالتساهل في الأخذ، كان يمكن وجدنا لذلك وجهًا، لكن أن يتهم بالتكذيب مع اعتماد هؤلاء العلماء؛ لا شك أن هذا فيه بُعد كبير.
ومما يدل حقيقةً على كثرة روايته لهذا الرجل من الرواة الثلاثة؛ أنتم تلاحظون أن الراوي الأول - أسباط –ما أخرج له إلا حديثًا واحدًا، قطن: ما أخرج له إلا حديثين؛ واحد مقرون والثاني متابعة، أما أحمد بن عيسى فأخرج له أربعة وثلاثين حديثًا، أكثر هذه الأحاديث في المتابعة؛ يعني يقول: حدثني أحمد بن عيسى وحرملة بن يحيى. حدثني أحمد بن عيسى وفلان. فهو يقرنه بغيره، إلا أن هناك حديثًا واحدًا أخرجه في الشواهد أيضًا؛ لا في المتابعات، ولم يسقه إلا من رواية أحمد بن عيسى، وهو حديث ?? أَنَّ رَسُولَ اللهِ (رَأَى حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ??.
وهذا الحديث على كل حال أيضًا أحمد بن عيسى متابَع فيه على شيخه المباشر لكن خارج " صحيح مسلم "، عند ابن حبان.
--------------------------------------------------------------------------------
¥