• ثم تلقف حديثَ الباطنية هذا: ابنُ عربي الحاتمي الأندلسي صاحب وحدة الوجود (ت638) -وهو باطني النظر في الاعتقادات كما قال تلميذه وبلديُّه الحافظ ابن مُسدي- وأورده بلفظه المطول في تلقيح الأذهان (كما في إرشاد الحائر، وخرّجه الحميري من مخطوطة التلقيح 128/أ) وفي الفتوحات المكية (1/ 119 كما في رسالة العطايا)، قال عبد الله الغماري في إصلاح أبيات البردة (75): "وأول من شهر هذا الحديث ابنُ العربي الحاتمي، فلا أدري عمّن تلقّاه! وهو ثقة (6)، فلا بدَّ أن أحد المتصوفة المتزهدين وضعه".
---------------------------
تعليق (6): كذا قال الغماري! ولا أدري من أين جاء بالتوثيق؟! فقد ترك الأئمةُ الرواية عن ابن عربي (كما ذكرتُ في كتابي فتح الجليل ص391)، وثبت أن سلطان العلماء العز ابن عبد السلام كذّبه، كما كذّبه جماعة من العلماء في ادعائه الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخراج كتابه (سرد فتاويهم التقي الفاسي)، وثبت كذب ابن عربي في ادعاء الرواية عن بعض شيوخه، مثل أبي الخير الطالقاني، واتُّهم في غيره، كأبي الحسن بن هُذيل، وعبد الحق بن عبدالرحمن الأزدي، والحافظ السِّلَفي، بل أبعد ابن عربي فادعى الإجازة من ابن عساكر -وقد توفي سنة 571 قبل السِّلفي- ومعلوم أن هذا متشدد في الإجازة، ولم نقف من إجازاته إلا على النادر جدا، وغالب مؤلفاته تُروى عنه بالسماع، ولذلك لم يُذكر أنه أجاز أهل عصره، وابن عربي ما رحل من الأندلس للمشرق إلا سنة 598 كما ذكر ابن النجار، فأنّى أخذ منه؟ ولهذا وغيره تُرجم ابن عربي في الميزان، واللسان.
ثم حديث النور هذا لم يُسبق إلى سياقه، وفيه اصطلاحات صوفية كما قال الغماري، فالظاهر أن ابن عربي علته دون غيره.
---------------------------
• ثم سرى الحديث في كتب التصوف والتشيع والسيرة المتأخرة دون إسناد طبعاً! وغاية الأمر أن أحد المتأخرين ممن لا تحقيق له في الحديث نسبه من رواية عبد الرزاق خطأ (على أحسن الظن)، وأقدم من وقفتُ عليه عزاه له: القسطلاني في المواهب اللدنية (1/ 46) -بينما ذكر الغماري أن السيوطي عزاه له في الخصائص، ولم أهتد له فيه- وسواء كان هذا أو ذاك، فهما توفيا في القرن العاشر، ولم يذكرا إسناد عبد الرزاق.
ثم جاء العجلوني في القرن الثاني عشر وعزاه في كشف الخفاء (1/ 311) وفي الأوائل الأربعين (19) لعبد الرزاق، ونصَّ في الأربعين أنه لم يقف على إسناده تبعاً للقسطلاني؛ الذي ذكره بلا سند.
ثم تناقل المتأخرون هذا العزو بعضهم من بعض دون نظر ولا تحقيق؛ حتى وصل الأمر إلى أسافل المجرمين فأحبوا أن يلفقوا جزءً يدسُّوه فيه وينسبوه للمصنف! فكان ذلك قصة ظهور مصنف الحميري هذا، والعياذ بالله.
علماً بأن بعض غلاة الطرقية سبقوا إخوانهم البريلوية في محاولة الخروج من هذا المأزق، فوضع أحد الشناقطة له إسناداً كما سيأتي! وجاء المدعو محمد البرهاني فعزاه في تبرئة الذمة (ص9 كما في رسالة العطايا) إلى عبد الرزاق في كتابه جنة الخلد!! ولا وجود لهذا الكتاب أصلاً!
• ولما صار الحديث متداولا في كتب السيرة وتلقفه غلاة المتصوفة والاتحادية؛ واعتقدوا ما فيه من الأباطيل: ألّف بعض أهل العلم محذرين من هذا الحديث المكذوب المصادم للنصوص، فمنهم:
الشيخ محمد أحمد بن عبد القادر الشنقيطي المدني في رسالته: تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق، وقد طُبعت بتقديم وموافقة سماحة الشيخ ابن باز.
ومنهم الشيخ عبد الله الغُماري -شيخ محمود سعيد ممدوح الذي قدّم لمصنف الحميري- فألّف رسالة بعنوان: مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر، وقال فيه: "وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ، لأنه لا يوجد في مصنفه، ولا جامعه، ولا تفسيره .. وهو حديث موضوع جزمًا، وفيه اصطلاحات المتصوفة، وبعض الشناقطة المعاصرين ركّب له إسنادًا! فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر! وهذا كذب يأثم عليه. وبالجملة فالحديث منكر موضوع، لا أصل له في شىء من كتب السُّنّة".
وقال عبد الله الغماري في إصلاح أبيات البردة (75): "قال السيوطي في الحاوي: إنه غير ثابت. وهو تساهل قبيح، بل ظاهر الحديث الوضع، واضح النكارة، وفيه نَفَس صوفي، حيثُ يذكر مقام الهيبة ومقام الخشية، إلى آخر مصطلحات الصوفية.
¥