8 ــ أنَّ الأئمة المتقدمين أمثال شعبة بن الحجاج، ويحيى القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والدّارقُطنيّ، وغيرهم في باب التعليل ـ كمسألة زيادة الثقة، والتعليل بالتفرد بضوابطـ متفقون بالجملة وإن وقع منهم بعض الاختلاف الجزئي لأسباب معينة؛ ومما يدل على ذلك:

قصة السائل مع أبي حاتم التي ذكرتها في أوَّل البحث؛ وفيها يقول أبو حاتم: «جاءني رجلٌ من جِلَّةِ أصحابِ الرأي مِنْ أهلِ الفهم منهم، وَمَعَه دفترٌ فعرضه عليَّ، فقلتُ في بعضها: هذا حديثٌ خطأ قد دَخَل لصاحبه حديثٌ في حديث، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ باطل، وقلتُ في بعضه: هذا حديثٌ منكر، وقلتُ في بعضهِ: هذا حديثٌ كذب، وسائرُ ذلك أحاديثُ صحاح، فقال: من أين علمتَ أنّ هذا خطأ، وأنَّ هذا باطل، وأنّ هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطتُ وأني كذبتُ في حديث كذا؟ فقلتُ: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية مَنْ هو، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأنّ هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أحسن؛ فإن اتفقنا علمتَ أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة ... ».

وقال محمدُ بنُ صالح الكِيلِينِي: «سمعتُ أبا زرعة وقالَ لهُ رجلٌ: ما الحُجةُ في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة أنْ تسألني عن حديثٍ لهُ عِلةٌ فأذكرُ علتَه ثم تقصدُ محمد بن مسلم بن وارة، وتسأله عنه، ولا تخبره بأنّك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم تقصدُ أبا حاتم فيعلله، ثم تميزُ كلامَ كلّ منّا على ذلكَ الحديث، فإنْ وجدتَ بيننا خلافاً في علته، فاعلم أنّ كلاً منا تكلم على مراده، وإنْ وجدتَ الكلمة متفقة، فاعلمْ حقيقةَ هذا العلم، قال: فَفَعَلَ الرجلُ، فاتفقت كلمتُهم عليه، فقال: أشهدُ أنَّ هذا العلمَ إلهام» (3).

9 ــ أنّ تعاليل الأئمة للأخبار مبنيةٌ ـ في الغالب ـ على الاختصار، والإجمال، والإشارة، فيقولون مثلاً: «الصواب رواية فلان»، أو «وَهِمَ فلان» أو «حديث فلان يشبه حديث فلان» أو «دَخَلَ حديثٌ في حديث» ولا يذكرون الأدلة والأسباب التي دعتهم إلى ذلك القول ـ مع وجودها عندهم واستحضارهم إياها ـ وسببُ ذلك أنّ كلامهم في الغالب موجه إلى أناسٍ يفهمون الصناعة الحديثية والعلل والإشارة فيدركون المراد بمجرد إشارة الإمام للعلة وذكرها، وقد خشي الأئمة من أنْ يساء الظن بهم إذا تكلموا بهذا الفن عند من لا يحسنه ولا يفهمه.

قالَ الإمامُ مسلم بنُ الحجاج: «أمّا بعد: فإنك ـ يرحمك الله ـ ذكرتَ أنّ قِبَلكَ قوماً ينكرون قولَ القائلِ مِنْ أهلِ العلم إذا قالَ: هذا حديثٌ خطأ، وهذا حديثٌ صحيحٌ، وفلانٌ يخطئ في روايته حديث كذا، والصوابٌ ما روى فلانٌ بخلافهِ، وذكرتَ أنهم استعظموا ذلكَ مِن قولِ من قاله ونسبوه إلى اغتيابِ الصالحين مِن السلف الماضين، وحتى قالوا: إن مِن ادعى تمييز خطأ روايتهم من صوابها متخرص بما لا علم له به، ومدعٍ علمَ غيب لا يوصل إليه، واعلم ـ وفقنا الله وإياكَ ـ أنْ لولا كثرة جهلة العوام مستنكري الحق ورايه بالجهالة (*) لما بان فضل عالم على جاهل، ولا تبين علم من جهل، ولكن الجاهل ينكر العلم لتركيب الجهل فيه، وضد العلم هو الجهل؛ فكلُّ ضد نافٍ لضده، دافع له لا محالة، فلا يهولنك استنكار الجهالِ وكثرة الرعاع لما خص به قوم وحرموه؛ فإن اعتداد العلم دائر إلى معدنه، والجهل واقف على أهله» (4).

وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: «لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأنَّ علم العامة يقصر عَنْ مثل هذا» (1) ـ وانظر تعليق ابن رجب على كلام أبي داود في شرح العلل (2) ـ.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015