وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: «لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث؛ لأنَّ علم العامة يقصر عَنْ مثل هذا» (1) ـ وانظر تعليق ابن رجب على كلام أبي داود في شرح العلل (2) ـ.

وقد حصل ما خشي الأئمة منه فتجد بعض المشتغلين بالحديث ـ فضلاً عَنْ غيرهم ـ يُغْلظ القول للأئمة عند نقله تعاليلهم للأخبار وأنه ما هكذا تُعل الأخبار ونحو ذلك من العبارات؛ لعدم فهمه لمرادهم وكيفية معرفة ذلك، وفي الأمثلة التطبيقية سأذكر حديثاً قال عنه أبو حاتم: «والحديثُ عندي ليس بصحيح كأنه موضوعٌ» فتعقبه بعضُ المعاصرين بقولهِ: «كذا قال أبو حاتم ـ رحمه الله ـ في العلل، وهل نترك ظاهر إسناد الحديث لكلام الإمام الحافظ أبي حاتم الرازي: (كأنه موضوع) أم نحكم بصحة الحديث بناءً على ظاهر إسناده؟!! علمها عند ربي، ولكن ما شهدنا إلاّ بما علمنا وما كنا للغيب حافظين. فحكمنا على الإسناد بظاهر الصحة وتركنا ما وراء ذلك» ـ راجع كلام مسلم وتأمله!! ـ.

وهنا كلامٌ نفيسٌ لابنِ رجب أرى لزاماً عليَّ أنْ أذكره بطولهِ؛ لأنَّه يُعبر عَنْ مرادي في هذا البحث، ومقصدي منه. قالَ: «عَنْ أبي هريرةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ عَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حُدِّثتم عني حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوه، فإني أقولُ ما يُعرف ولا ينكر، وإذا حُدِّثتم عني بحديث تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدقوا به؛ فإني لا أقولُ ما يُنكر ولا يُعرف»، وهذا الحديثُ معلولٌ أيضاً، وقد اختلفوا في إسنادهِ على ابنِ أبي ذئب، ورواهُ الحفاظُ عنه عَنْ سعيد مرسلاً، والمرسلُ أصحُّ عند أئمة الحفاظ منهم: ابن معين والبخاري وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وقال: «ما رأيتُ أحداً من علماءِ الحديث يثبت وصله».

وإنما يحملُ مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمةِ أهلِ الحديث الجهابذة النقّاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكلام غيرهِ لحال رواةِ الأحاديثِ ونَقَلةِ الأخبارِ ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم وحفظهم؛ فإنَّ هؤلاءِ لهم نقدٌ خاصٌ في الحديثِ مختصونَ بمعرفتهِ كَمَا يختصُّ الصيرفيُّ الحاذقُ بمعرفةِ النقودِ جيدها ورديئها وخالصها ومشوبها، والجوهريُّ الحاذقُ في معرفةِ الجوهر بانتقاد الجواهر.

وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عَنْ سَبَب معرفتهِ ولا يقيمُ عليه دليلاً لغيرهِ، وآيةُ ذلكَ أنَّه يُعرَضُ الحديث الواحد على جماعةٍ ممنْ يعلمُ هذا العلم فيتفقون على الجوابِ فيهِ مِنْ غيرِ مواطأة، وقد امتحن منهم غير هذا مرّة في زمنِ أبي زرعة وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلكَ، فقال السائلُ: «أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهام»، قال الأعمشُ: «كان إبراهيمُ النخعيُّ صيرفياً في الحديثِ، كنتُ أسمعُ من الرجال فأعرض عليه ما سمعتهُ»، وقال عَمرو بنُ قيس: «ينبغي لصاحبِ الحديثِ أنْ يكونَ مثلَ الصيرفيّ الذي ينقد الدرهمَ الزائفَ والبهرج وكذا الحديث».

وقال الأوزاعيُّ: «كنا نسمعُ الحديثَ فنعرضه عَلى أصحابنا كما نعرضُ الدرهمَ الزائفَ على الصيارفة؛ فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا»، وقيل لعبدِ الرحمن بنِ مهدي: إنك تقولُ للشيءِ: هذا يصحُ، وهذا لم يثبتْ؛ فعمن تقولُ ذلكَ؟ فقالَ: أرأيتَ لو أتيتَ الناقدَ فأريته دراهمك فقال: هذا جيدٌ، وهذا بهرج، أكنتَ تسأله عَن ذلك أو تسلم الأمرَ إليهِ؟ قال: «لا بل كنتُ أسلمُ الأمرَ إليهِ، فقالَ: فهذا كذلك لطولِ المجادلةِ والمناظرةِ والخبرةِ، وقد رُوي نحو هذا المعنى عَن الإمامِ أحمد أيضاً وأنه قيل له: يا أبا عبد الله! تقولُ: هذا الحديثُ منكرٌ؛ فكيف علمتَ ولم تكتبْ الحديثَ كلَّه؟ قالَ: مثلنا كمثلِ ناقد العين لم تقع بيده العين كلها؛ فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيّد، أو أنه رديء، وقال ابنُ مهدي: «معرفةُ الحديثِ إلهام»، وقالَ: «إنكارنا الحديثَ عند الجهال كهانة». وقال أبو حاتم الرازي: «مثل معرفةِ الحديثِ كمثلِ فصّ ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم»، قال: «وكما لا يتهيأ للناقدِ أن يخبر بسبب نقدهِ؛ فكذلكَ نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذب، وأنّ هذا حديثٌ منكر إلا بما نعرفه، قال: «ويعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015