كلما كان الناقد أعلى في منزلته بين النقاد، وأكثر كلاماً في الرجال والأحاديث من غيره فينبغي أن يكون الاهتمام بمصطلحاته أكثر، فاصطلاحات الأئمة النقاد المكثرين يجب أن يعتنى بها أشد الاعتناء وأكمله وأن يتوفر الدارسون والباحثون على استقراء كل ما يعين على فهمها واتضاحها؛ ولا سيما إذا لم نجد عند من جاء بعدهم أو عاصرهم من النقاد والعلماء بياناً شافياً لمعنى تلك الألفاظ عندهما.
42 - بيان أولى الكتب بالاستقراء:
لا بد من أجل المعرفة الدقيقة باصطلاحات المحدثين من استقراء كتب الحديث على تنوع موضوعاتها وطرق تصنيفها، ولكن أولى الكتب بالاستقراء التام كتب أهل الاصطلاح - وهم محدثو القرن الثالث فما قبله، وأئمة المحدثين في القرن الرابع -، أو الكتب التي تعنى بنقل كلام أهل الاصطلاح هؤلاء.
43 - بيان مدى الانتفاع بأقوال العلماء في شرح المصطلحات ومدى الاعتماد عليها:
المسلك الصحيح في هذا الباب التلقي التام والقبول المطلق لشرح أهل الاصطلاح لمصطلحهم، ولكن مع مراعاة أن الأوائل لم يكونوا يحرصون على التدقيق الزائد في التعريفات خلافاً للطريقة الشائعة عند المتأخرين؛ ومع مراعاة احتمال أنهم عرفوا نوعاً مشكلاً من أنواع المعنى الذي تكلموا عليه وعرفوا به، وتركوا الأنواع الأخرى منه لشهرة المقصود بها، أو لقوة دلالة القرائن والساقات عليها؛ ويراعى كذلك احتمال خروجهم عن اصطلاحهم أحياناً، بل ويراعى كل ما يدخل في هذه المسألة مما يفهم من مجموع التنبيهات المتقدمة أو الآتية في الفرق بين طريقة المتقدمين والمتأخرين في اصطلاحاتهم.
وبعد ذلك لا بد من الإفادة من كلام غير المتقدمين من علماء الحديث في شرح اصطلاح المتقدمين، كما نبه على ذلك الشيخ حاتم العوني في (المنهج المقترح) بقوله في بيان بعض خطوات استقراء المصطلحات (الاستنارة بكلام المصنفين في علوم الحديث، من غير أهل الاصطلاح، بعامة؛ وخاصةً أصحاب الطور الأول لكتب علوم الحديث: طور ما قبل كتب ابن الصلاح؛ ولكتاب ابن الصلاح أيضاً ميزة وفضيلة على كتب الطور الثاني كلها، لأسبابٍ وعوامل اختص بها).
44 - بيان وجوب ضبط شكل الكلمات الاصطلاحية:
ينبغي البحث عن الضبط الصحيح للكلمة الاصطلاحية؛ قال السخاوي في (فتح المغيث) (1/ 348 - 349): (ينبغي تأمل الصيغ فرب صيغة يختلف الأمر فيها بالنظر إلى اختلاف ضبطها، كقولهم (فلان مودٍ) فإنها اختلف في ضبطها فمنهم من يخففها، أي هالك، قال في الصحاح: أودى فلان أي هلك فهو مودٍ، ومنها من يشددها مع الهمزة، أي حسن الأداء، أفاده شيخي في ترجمة سعد بن سعيد الأنصاري من مختصر التهذيب نقلاً عن أبي الحسن بن القطان الفاسي، وكذا أثبت الوجهين كذلك في ضبطها ابن دقيق العيد).
وقال الذهبي في (الميزان) في ترجمة سعد بن سعيد المذكور (2/ 120): (قال أبو حاتم: سعد بن سعيد مُؤَدٍّ، قال شيخنا ابن دقيق العيد: اختلف في ضبط مودٍ، فمنهم من خففها أي هالك، ومنهم من شددها أي حسن الأداء).
وقال ابن أبي حاتم في تفسير كلمة أبيه هذه عندما حكاها في الجرح والتعديل (1/ 2/84):
(يعني أنه كان لا يحفظ يؤدي ما سمع).
وقال ابن أبي حاتم في تقدمة (الجرح والتعديل) (ص81): (قال سفيان [الثوري]: كان ابن أبي ليلى مؤدياً، يعني أنه لم يكن بحافظ).
45 - بيان وجوب تدبر صيغة المصطلح:
يجب تدبر الصيغة جيداً؛ فكثيراً ما يكون الفرق بين العبارتين دقيقاً خفياً لا يفطن له كثير من أهل هذا العلم فضلاً عن المشاركين فيه؛ فإليك مثالاً على هذه القضية الفرق بين (ليس بالقوي) و (ليس بقوي).
قال الذهبي في (الموقظة) (ص83): (وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم: (ليس بالقوي)، يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت، والبخاري قد يطلق على الشيخ (ليس بالقوي) ويريد انه ضعيف).
¥