فأخذ فكتب في كاغذ ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبا زرعة في تلك الأحاديث فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلتُ: الكذب والباطل واحد، وما قلت إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت إنه منكر قال: هو منكر كما قلتُ، وما قلت إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح، فقال: ما أعجب هذا تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما، فقلت: فقد علمت أنا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله بأن ديناراً نَبْهَرَجا (11) يحمل إلى الناقد فيقول هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فان قيل له: من أين قلت إن هذا نبهرج هل كنت حاضرا حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا فإن قيل له فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلتَ إن هذا نبهرج؟ قال: علماً رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك، قلتُ له: فتحمل فصّ ياقوت إلى واحدٍ من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت، فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج وأن هذا ياقوت هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجا، قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رزقت، وكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأنّ هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه)) (12).
وتأمل أيضاً هذه القصة التي ذكرها أبو يعلى الخليليُّ قال: أخبرنا علي بنُ عُمَر الفقيه قال: حدّثنا أبو محمد عبد الرحمن بنُ أبي حاتم قال: سمعتُ أبي يقول: دخلتُ قَزوين سنةَ ثلاث عشرة ومائتين مع خالي محمد بن يزيد، وداود العقيلي قاضيها، فدخلنا عليه فدفع إلينا مَشْرَسا (13) فيه مسند أبي بكر فأولُ حديثٍ رأيتُه فيه حدثنا شعبةُ عَنْ أبي التَيّاح عَنْ المغيرة بن سُبَيْع عَنْ أبي بكر الصديق قال: قال النبيّ صلى اللهُ عليه وسلم:"يخرج الدجالُ من أرضٍ يقال لها: خراسان يتبعه أقوامٌ كأنّ وجهوهم المجانُّ المُطرَقَةُ" (14)، فقلتُ: ليس هذا من حديث شعبة عَنْ أبي التَيّاح!، وإنما هو من حديثِ سعيد بن أبي عَرُوبة وعبد الله بن شَوْذَب عَنْ أبي التَيّاح، فقلتُ لخالي: لا أكتبُ عنه إلاّ أن يرجع عَنْ هذا، فقال خالي: أستحي أن أقول، فخرجتُ ولم أسمعْ منه شيئا)) (15).
وذكرها ابنُ أبي حاتم في الجرح والتعديل (16) باختصار فقال ((سمعتُ أبي يقول: داود بن إبراهيم هذا متروك الحديث كان يكذب، قدمتُ قزوين مع خالي فحمل إلي خالي مسنده فنظرتُ في أول مسند أبي بكر رضي الله عنه فإذا حديث كذب عَنْ شعبة فتركته وجهد بي خالي أن اكتب منه شيئا فلم تطاوعني نفسي ورددتُ الكتب عليه)).
هذه القصة التي وقعت لأبي حاتم وعمره ثمانية عشر تبيّن مدى ما وَصَل إليه القوم من سعة حفظ، وسرعة استحضار، ودقة نقد، وقوة في الحق، فالحديثُ ورجالهُ وطرقهُ تجري مع أنفاسهم كما يجري الهواء، وعندما يسمعون الخطأ والوهم لا يقاومون الدافع الشرعي المتأصل في نفوسهم في رد وتصحيح هذا الوهم والخطأ مهما كانت منزلة الواهم والمخطئ، فلا محاباة في الذّب والدّفاع عَنْ سنة المصطفى صلى اللهُ عليه وسلم لا لقريبٍ ولا لشريفٍ، وهذا في الحقيقة من حفظ الله لهذا الدين.
وقصصُ أئمةِ الحديثِ وأخبارهُم في هذا البابِ كثيرةٌ جداً، فعلى طالب العلم أنْ يعرفَ للقومِ منزلتهم، وقدم صدقهم فيتأنّى كثيراً عندما يهم بمخالفتهم أو تعقبهم خاصةً في جوانب الحديث الدقيقة كالعلل.
3. جمعُ طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها، قالَ الخطيبُ البغداديّ -رحمة الله عليه-” ((والسبيلُ إلى معرفةِ علة الحديث أنْ يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط، كما أخبرنا أبوبكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأشناني بنيسابور قال: سمعتُ أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي يقول: سمعتُ عثمان بن سعيد الدارمي يقول: سمعتُ نعيم بن حماد يقول: سمعت ابن المبارك يقول: إذا أردتَ أن يصحَ لكَ الحديث فاضرب بعضه ببعض)) (17).
¥