قال الحافظ ابن كثير: (ومنهم من يقول إنه حسن باعتبار المتن، صحيح باعتبار الإسناد) ().
ومعنى قوله: (حسن باعتبار المتن): أي الحسن اللغوي، المتضمن جمال العبارات وبلاغتها وقوة التراكيب.
n وقد اعترض ابن دقيق العيد على هذا التوجيه بأنه يلزم عليه أن يطلق على الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ أنه حسن، وذلك لا يقوله أحد من أهل الحديث إذا جروا على اصطلاحهم. ()
وقد أجاب عن هذا الحافظ العراقي فقال: (قد أطلقوا على الحديث الضعيف بأنه حسن وأرادوا حُسْن اللفظ لا المعنى الاصطلاحي، فروى ابن عبد البر في كتاب آداب العلم حديث معاذ بن جبل مرفوعاً: ((تعلموا العلم فإن تعليمه ذلك لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح ... )) الحديث.
قال ابن عبدالبر: وهو حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد قوي.انتهى كلامه ().
فأراد بالحُسْنِ حُسْنَ اللفظ قطعاً، فإنه من رواية موسى بن محمد البلقاوي عن عبدالرحيم ابن زيد العمي، والبلقاوي هذا كذاب ... ، والظاهر أن هذا الحديث مما صنعت يداه، وعبدالرحيم بن زيد العمي متروك الحديث أيضاً). ()
وقد اعترض ابن حجر على جواب العراقي المتقدم بأن ابن دقيق قد قيد كلامه بقوله: (إذا جروا على اصطلاحهم)، وهنا لم يجر ابن عبدالبر على اصطلاح المحدثين باعترافه بعدم قوة إسناده، فكيف يحسن التعقب بذلك على ابن دقيق العيد. ()
كما ناقش سراج الدين ابن الملقن ما اعترض به ابن دقيق العيد فقال: (ولك أن تقول لا يرد على الشيخ ما ألزمه به، لأنه ذكر هذا التأويل للحسن الذي يقال مع الصحيح، لا للحسن المطلق، والموضوع لا يقال إنه صحيح). ()
وذكر الحافظ ابن حجر أن ما ذكره ابن دقيق العيد إلزام عجيب، إذ أن الحكم عليه بالصحة يمنع أن يكون موضوعاً. ()
n وقد اعترض ابن سيد الناس على هذا التوجيه الذي استحسنه ابن الصلاح فقال: (وهو أبعد من الأول ()، إذ كل حديث رسول الله ? حسن، سواء كان في الأحكام أو الرقائق أو غيرها، وأيضاً فلو أراد واحداً من المعنيين () لَحَسُن أن يأتي بواو العطف المُشَرِّكة فيقول: حسن وصحيح، ليكون أوضح في الجمع بين الطريقين، أو السند والمتن) ().
n وذكر ابن كثير اعتراضاً آخر فقال: (وفي هذا نظر أيضاً، فإنه يقول ذلك في أحاديث مروية في صفة جهنم، وفي الحدود والقصاص، ونحو ذلك) ().
وقال ابن الملقن: (ووهاه بعضهم أيضاً بأن أحاديث الوعيد لا توافق القلب، بل يجد منها كرباً وألماً من الخوف، وهي من الأحاديث الحسان). ()
n وقال ابن حجر في الاعتراض على هذا التوجيه: (ويلزم عليه أيضاً أن كل حديث يوصف بصفة فالحُسْن تابعه، فإن كل الأحاديث حسنة الألفاظ بليغة، ولما رأينا الذي وقع له هذا كثير الفرق، فتارة يقول: حسن فقط، وتارة صحيح فقط، وتارة حسن صحيح، وتارة صحيح غريب، وتارة حسن غريب، عرفنا أنه لا محالة جار مع الاصطلاح، مع أنه قال في آخر الجامع: وما قلنا في كتابنا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ()، فقد صرح بأنه أراد حسن الإسناد، فانتفى أن يريد حسن
اللفظ). ()
لكن أجاب السخاوي على اعتراض شيخه بما نقل عن الترمذي في مراده بالحسن، فقال: (ولكن لا يتأتى هذا إذا مشينا على أن تعريفه إنما هو لما يقول فيه حسن فقط). ()
قلت: ويمكن أن يعترض على ما أورده الحافظ ابن حجر بأن الإمام الترمذي لما أطلق الحكم بالحُسْن مفرداً، والحكم بالصحة كذلك، عرف بأنه في ذلك جار مع الاصطلاح، وأن كل واحد منهما قسم مستقل بذاته، فلما جمع بينهما تبين أنه لم يجر في ذلك مع الاصطلاح - والله أعلم -.
القول الثالث:
أن الحسن لا يشترط فيه قيد القصور عن الصحيح، وإنما يجيئه القصور حيث انفرد الحسن، وأما إذا ارتفع إلى درجة الصحة فالحسن حاصل لا محالة تبعاً للصحة، لأن وجود الدرجة العليا وهي الحفظ والإتقان لا ينفي وجود الدنيا كالصدق، فيصح أن يقال حسن باعتبار الصفة الدنيا، صحيح باعتبار الصفة العليا، ويلزم على هذا أن يكون كل صحيح حسناً، ويؤيده قولهم: حسن، في الأحاديث الصحيحة، وهذا موجود في كلام المتقدمين.
وبهذا قال ابن دقيق العيد. ()
¥