قال ابن تيمية: "وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، والحجة على قول الجمهور أن تلقِّي الأمة للخبر تصديقاً وعملاً إجماعٌ منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما لو اجتمعت على موجب عمومٍ أم مطلقٍ، أو اسم حقيقة، أو على موجب قياس، فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمَن عليه الخطأ، فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحدٍ واحدٍ من المخبرين بمفرده، ولا يجوز على المجموع، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ... (ثم قال) والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنوناً بشروطها، فإذا قويت صارت علوماً، وإذا ضعفت صارت أوهاماً وخيالاتٍ فاسدة".

(قال): واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره الشيخ أبو عمرو، ومن قبله العلماء كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره، فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصلٌ للعلم، مفيدٌ لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على أمرٍ من الأمور الدينية بأهلِ العلم به دون المتكلمين والنحاة والأطباء، وكذلك لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء الحديث العالمون بأحوال نبيهم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم، فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوماً لغيرهم، فضلاً أن يتواتر عندهم، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم r وضبطهم أقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علماً لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به البتة".

وقد احتج ابن حزم رحمه الله بحجج قوبة جداً على إثبات أن خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول يفيد العلم القطعي، فراجع كتابه "الإحكام"

(1/ 119 - 131)، وكان من جملة ما قاله: "فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله r معصوم من الله تعالى في البلاغ في الشريعة، وعلى تكفير

من قال: ليس معصوماً في تبليغه الشريعة إلينا. فنقول لهم: أخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى لرسوله r في تبليغه الشريعة التي بها، أهي له عليه السلام في إخباره الصحابة بذلك فقط، أم هي باقية لما أتى به عليه الصلاة والسلام في بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة فإن قالوا: بل هي له عليه السلام مع من شاهده خاصةً لا في بلوغ الدين إلى من بعدهم. قلنا لهم: إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته عليه الصلاة والسلام، وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين، فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده عليه السلام، وبين ما منعتم من ذلك في حياته منه عليه الصلاة والسلام؟

فإن قالوا: لأنه كان يكون عليه السلام غير مبلغ ما أمر به ولا معصوم،

والله تعالى يقول:} بلغ ما أُنزِلَ إليكَ من ربِكَ وإنْ لمْ تفعل فما بَلغتَ رسالتهُ واللهُ يعصِمُكَ من الناس {.

قيل لهم: نعم، هذا التبليغ المعترض عليه هو فيه عليه السلام معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة ولا فرق، والدين لازمٌ لنا كما هو لازمٌ لهم سواءً بسواء، فالعصمة واجبة في التبليغ للديانة، باقية مضمونة ولابد إلى يوم القيامة، والحجة قائمة بالدين علينا وإلى يوم القيامة، كما كانت قائمة على الصحابة رضي الله عنهم سواءً بسواء، ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة، والحجة لا تقوم بما لا يُدرى أحقٌ هو أم باطلٌ كذبٌ؟!

ثم نقول لهم: وكذلك قال الله تعالى:} إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {، وقال تعالى:} اليومَ أكملتُ لكم دينكم {، وقال تعالى:} ومن يبتغ غير الإسلامِ ديناً فلن يُقبلَ منه {، وقال تعالى:} قد تبين الرشد من الغي {، فإن ادعوا إجماعاً، قلنا لهم: من الكرَّامية من يقول: إنه عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة، فإن قالوا: ليس هؤلاء ممن يُعدُّ في الإجماع.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015