ـ[الرايه]ــــــــ[03 - 02 - 05, 11:55 ص]ـ
السؤال/
هل كان في عصر الأئمة الأربعة أحاديث صحيحة لم تكتب و لم تصل إلينا استندوا إليها في فتواهم؟
أم أن جميع فتواهم استندوا فيها إلى أحاديث نعرفها الآن؟
وما مدى تأثير غزو التتار للبلاد الإسلامية على القضاء على كتب أحاديث لم تصل إلينا في هذا العصر؟
الجواب/
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)، وبعد:
فاعلم- أخي الكريم:
أولاً: ينبغي أن تعلم- وفقك الله- أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن في عصر أصحابه، رضي الله عنهم، وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة، كما ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري، لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك- كما ثبت في صحيح مسلم (3004) - خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
وثانيهما: سعة حفظهم، وسيلان أذهانهم؛ ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار؛ لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض، ومنكري الأقدار.
فأول من جمع ذلك: الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك (الموطأ)، وتوخَّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة، رضي الله عنهم، وفتاوى التابعين، ومن بعدهم، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندًا، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندًا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندًا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسندًا، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معًا كأبي بكر بن أبي شيبة،
قال السيوطي: وهؤلاء المذكورون في أول من جمع، كلهم من أبناء المائة الثانية، وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز.
وأفاد الحافظ في الفتح أيضًا: أن أول من دوّن الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز- يرحمه الله- هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم أهل الحجاز والشام، ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهري، ولم يزل التأليف في الحديث متتابعًا إلى أن ظهر الإمام البخاري، وبرع في علم الحديث، وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة، فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة، ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال، فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبينت له صحته، وكانت الكتب قبله ممزوجًا فيها الصحيح بغيره، بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته، وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه، فإن لم يتيسر له ذلك بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده، واقتفى أثر الإمام البخاري في ذلك الإمام مسلم بن الحجاج، وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه، فألف كتابه المشهور الصحيح، ولُقِّب هذان الكتابان بالصحيحين، فعظم انتفاع الناس بهما، ورجعوا عند الاضطراب إليهما، وألفت بعدهما كتب لا تحصى، فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها.
ثانيًا: اعلم- وفقك الله- أن الصحيحين كل ما فيهما مجمع على الأخذ به وتلقته الأمة بالقبول، وليس معنى ذلك أن غيرهما لا يوجد فيه أحاديث صحيحة، لذا ألف الحاكم المستدرك على الصحيحين، وقد تعقبه الذهبي، لكن الحديث إن كان في غيرهما فينبغي التحري والدقة والبحث في إسناده، والتحقق من رجاله، بخلاف الحديث الذي هو في الصحيحين.
¥