عللها إحاطة بشطر السنة أو ثلثيها.

وقال الإمام ابن رجب الحنبلي، المتوفى سنة 795 رحمه الله في شرحه على ((علل الترمذي)) بآخر السنن: ((وكذا الكلام في العلل والتواريخ قد دوَّنه أئمة الحفاظ، وقد هُجر في هذا الزمان، ودَرس حفظه وفهمه، فلولا التصانيف المتقدمة فيه لما عرف هذا العلم اليوم بالكلية، ففي التصنيف فيه، ونقل كلام الأئمة المتقدمين مصلحة عظيمة جداً)) (8)، وقال أيضاً في آخر شرحه: ((و أردت بذلك تقريب علم العلل على من ينظر فيه، فإنه علم قد هُجر في هذا الزمان، وقد ذكرنا في كتاب العلم أنه علم جليل، قلَّ من يعرفه من أهل هذا الشأن، وأن بساطه قد طُوي منذ أزمان، وبالله المستعان ... )) (9)، وقد ذكر رحمه الله مراتب أعيان الثقات، الذين تدور عليهم غالب الأحاديث الصحيحة، وبيان مراتبهم في الحفظ، وذكر من يرجح قوله عند الاختلاف (10).

وقد كان من أماني الإمام المحدِّث الفقيه الأصولي المجتهد ابن دقيق العيد، المتوفى سنة 702 رحمه الله تعالى أن يُفرد مبحث الترجيح بين الرواة بالتصنيف. قال الزركشي رحمه الله في مقدمة نكته على ابن الصلاح، لما ذكر أنواعاً أهملها ابن الصلاح: ((الثامن: معرفة تفاوت الرواة، كقولهم: هو دون فلان، وليس هو عندي مثل فلان مما يدل على نقصه بالنسبة إلى غيره، وهذا الفن يحتاج إليه في باب الترجيح عند اختلاف الرواية، وليس من القدح في الرواية التي لم تتعارض في شيء.

قال الشيخ في شرح الإلمام: ((وهذا النوع من الحديث ينبغي أن يَعقد له باباً، أو يفرد له تصنيفاً، ويُعدَّ في علوم الحديث، بل هو من أجلِّها للحاجة إليه في الترجيح، ولست أذكر الآن أنه فعل ذلك)) انتهى، وقد يقال برجوعه إلى معرفة طبقات الرواة، وقد أفرده)) (11) يعني: أفرده ابن الصلاح بنوع.

ثالثاً: ومما زادني يقيناً بأهمية هذا البحث: أن كثيراً من الإخوة الأفاضل من طلبة العلم فضلاً عن غيرهم، كانوا يسألونني عن موضوع رسالتي، فلما أذكره لهم يجدون صعوبة في تصوره! مما اضطرني أحياناً أن أقول: رسالتي في علم العلل! دون ذكر اسمها مفصَّلاً؛ وذلك يدل على أن هذا الأصل المهم جداً من علوم الحديث قد غابت الأذهان عنه، حتى عدم منها تصوره؛ لذلك كان إحياء هذا الأصل بالتصنيف فيه واجباً، لايتم بدونه المضي– في هذا العصر – في نهضة حديثية، يجب أن تعتمد أصولاً راسخة، أرسى قواعدها أئمة الحديث وحفاظه المتقدمون y ، وذلك بالعناية بعلم العلل عموماً، والاهتمام بمعرفة مخارج الحديث في أمصار الرواية، ومن تدور عليهم السنن فيها خصوصاً.

خطوات البحث:

أولاً – انطلقت فكرة البحث من الرغبة في استقراء الأئمة الذين تدور عليهم الأسانيد، ومعرفة طبقات أصحابهم، ثم إيراد نماذج تبيِّن اختلاف روايات الأصحاب عن الأئمة، وأثر ذلك في علم العلل، فيكون الاستقراء والإحصاء ركيزة هذا البحث.

ثانياً – ولتحقيق ذلك الغرض: قمت أولاً بسرد عدد من كتب الأئمة المتقدمين: يحيى بن معين، وعلي ابن المديني، وأحمد بن حنبل، ويعقوب بن سفيان، وغيرهم ... رحمهم الله تعالى، بدءً بالأقدم فالأقدم، واستخرجت منها ما وجدته مفيداً في البحث؛ فتجمع عندي جذاذات كثيرة جداً. وكنت عازماً على المضي في السرد للكتب وصولاً إلى تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، وتهذيب الكمال، للمزي، مروراً بالتاريخ الكبير، للبخاري، و الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، والكامل، لابن عدي. غير أن ضخامة العمل، وضيق الوقت قد قطعا عليَّ الطريق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثالثاً – غير أن البحث الاستقرائي الإحصائي وحده لا يؤتي أُكُله، ما لم يُبن على ذلك تأصيل مسائله وقواعده، وذلك يستدعي تحرير المصطلحات، وتشييد الأسس النظرية التي ينبني عليها الفهم الكلي لذلك العلم، مع ربط ذلك بأمثلة تبيِّن الميدان التطبيقي العملي لقواعد ذلك العلم ومسائله، لذلك رجعت إلى الجذاذات التي كتبتها، وإلى كتب علوم الحديث، وإلى كتب أصول الفقه، واستخلصت أبحاث هذه الرسالة و أمثلتها، وفق خطة الرسالة، التي تضمنت أبوابها وفصولها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015