يحتج الموجبون على الأمة المسلمة - علماء وعامة - بأن لا ينصحوا حكامهم إلا بالسر بحديث يتردد كثيراً في كتبهم ومقالاتهم يدعون فيه الصحة يقلدون في ذلك من صححه كالحاكم والألباني، هذا الحديث هو: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه).

وهو حديث سيتبين لكل من له إلمامة ٌ بعلم التخريج أنه حديث ضعيف.

وتصحيح الحاكم معروف مشهور لدى طلبة العلم بأنه لا يوثق به لتساهله ما لم تؤيده الدلائل العلمية القوية. وهذا شيء لا نريد الإطالة في نقل كلام المحدثين والنقاد فيه , فقلما كتاب من كتب المصطلح إلا وقد عرجت على مستدرك الحاكم وعلى مرتبة تصحيحه وتقويته للأحاديث فيه، ومن التبجح والتكثر الذي لا لزوم له: نقلها هنا في هذا المنبر.

وأما تصحيح الألباني للحديث، فهو يؤيد قول من يرى أن الشيخ رحمه الله لا يقيم شأناً عظيماً في النظر في العلل الخفية إلا إذا سبقه أحد من المحققين وكان على الحديث ضجة معروفة.

والشيخ مع كثرة اشتغاله بهذا الفن إنما كانت تفوته كثيرا بعض القضايا الأساسية والمهمة في طرائق السلف في التعليل ونقد الأحاديث.

وهذا باب عظيم نسأل الله عز وجل أن يقوي الهمة لكشفه والإبانة عنه في مواطن أخرى، ولكن هنا أشير محذراً الكثير ممن يشتغلون بالتخريج على طريقة الشيخ أنهم بحاجة إلى معرفة طرق المتقدمين في النقد والتعليل، وهي طرق تكاد تتلاشى للأسف مع تجار الكتب وبائعيها تكثراً بها من أجل التجارة، حيث يظن الواحد منهم أن تكثير العزو للكتب التي تروي الحديث هو منتهى الإطلاع والعلمية، وهم في الحقيقة يرجعون إلى فهارس أطراف الحديث التي انتشرت في هذه الأزمنة المتأخرة، ويحسن التعامل معها الصغار والمبتدئون. خاصة إذا علمنا أن ضغطة صغيرة على لوحة المفاتيح في الكمبيوتر تجمع لك مظان الحديث ومصادره.

وبعضهم ينفخ هذه الكتب بكثرة ذكر تراجم الرجل الراوي في سند الحديث وهو علم المبتدئين كسابقه في هذه الأزمان وسنتبين فيما سيأتي خطأ الألباني رحمه الله في تصحيح هذا الحديث ثم خطأ من قلده بالاحتجاج به.

الحديث له طريقان:

أولاهما:

ما رواه أحمد وابن أبي عاصم وابن عدي كلهم من طريق صفوان قال: حدثني شريح بن عبيد الحضرمي قال: "جلد عياض بن غنم صاحب دارا حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: (إن من أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس)، فقال عياض بن غنم: يا هشام قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه). وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى؟ ".

قلت: هذه رواية أحمد واخترتها؛ لطولها ولذكر سبب الحديث. وهذا الحديث ضعيف للانقطاع الذي بين شريح بن عبيد الحضرمي وعياض بن غنم.

قال الحافظ بن حجر في ترجمة شريح: وكان يرسل كثيراً.

وسئل محمد بن عوف: هل سمع شريح بن عبيد من أبي الدرداء؟ فقال: لا. قيل له: فسمع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أظن ذلك، وذلك أنه لا يقول في شيء من ذلك سمعت وهو ثقة.

وقد جزم ابو حاتم الرازي أن شريح لم يدرك أبا أمامة ولا الحارث بن الحارث ولا المقدام , وأن روايته عن أبي مالك الأشعري مرسلة.

وأبو أمامة توفي سنة 86 هـ والمقدام بن معد يكرب توفي سنة 87 هـ فكيف يدرك عياض بن غنم الذي توفي سنة 20 هـ.

فقول الألباني في تخريجه للسنة لابن أبي عاصم: (أن إسناده صحيح ورجاله ثقات)، غير صحيح، إذ أن رجاله الذين في السنة لابن أبي عاصم فيهم بقية بن الوليد، والقول فيه معروف، والإسناد منقطع غير صالح.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015