ففي هذا القرن كتب الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد الخليلي (ت 446هـ) مقدمةً لكتابه (الإرشاد في معرفة علماء الحديث). وهي مقدمة نفيسة، تعرض الخليلي فيها لمصطلحات مهمة بالشرح والتمثيل لها. وكلامه فيها من معين المحدثين، ومن صافي مشاربهم، ولا أثر فيها لأي علم غريب، فلكأن كاتبها من أهل القرن الرابع! ولعل الخليلي كان محدثاً صرفاً، أو لعل قصر تلك المقدمة لم يساعد على إضهار مشاربه المختلفة فيها.

وكتب في هذا القرن الإمام البيهقي (ت 458هـ) كتابه (المدخل إلى السنن الكبرى).

وقد طبع القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو الموجود من مخطوطته، وبقية الكتاب شبه مفقودة. فكان مما فقدنا من هذا الكتاب، القسم الذي خصه البيهقي ـ فيما يظهر ـ لمصطلح الحديث وأصوله!

وقد كان الحافظ ابن كثير الدمشقي (إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، المتوفى سنة 774هـ)، قد جعل من كتاب البيهقي هذا مرجعه الثاني، بعد كتاب ابن الصلاح، في مؤلفه: (اختصار علوم الحديث)، كما صرح بذلك ابن كثير نفسه

في مقدمة كتابه (1).

ومع ذلك، فلم أجد ابن كثير صرح بالنقل عن البيهقي إلا في ثلاثة مواضع فقط، من كتابه (اختصار علوم الحديث) (2).

غير أن محقق كتاب البيهقي، وهو الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، قد جمع مجموعةً من النقول عن القسم المفقود من (المدخل إلى السنن)، من كتب علوم الحديث المتأخر مصنفوها عن الإمام البيهقي (3).

ولا شك أن تحديد منهج البيهقي من النظر في تلك النقول، بل ومن المتبقي من كتابه، لا يحتاج إلى كثيبر تعب! فهو واضح المنهج، وضوحاً لا يحتاج أكثر من تقليب صفحاتٍ من كتابه.

فـ (المدخل إلى السنن الكبرى) عبارة عن كتابٍ لإسناد أقوال ائمة الحديث في القرن الرابع فما قبله ن المتعلقة بأصول الرواية وقواعدها.

غير أن فقدان قسم من الكتاب، هو القسم الذي فيه الكلام عن (المصطلح)، افقدنا الاستفادة من هذا المنهج السليم في شرح المصطلح، المعتمد على النقول عن أئمة الحديث.

غير أن البيهقي: من أهل القرن الخامس، الذي ذكرنا المؤثرات التي ظهرت فيه للعلوم العقلية على العلوم النقلية. ثم البيهقي أيضاً: أشعري العقيدة، بل ممن نصر هذه العقيدة، كما سبق ذكرنا له بذلك (4). ثم البيهقي كذلك: ليس فقط ممن تأثر بأصول الفقه، بل له فيها مصنف (5)! ويقول عنه ابن السبكي (عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، المتوفى سنة 771هـ): ((أصولي نحرير)) (6).

فهذه المؤثرات لا بد أن تظهر في كتاباته على علوم الحديث، وهي وإن لم نجدها في (المدخل إلى السنن)، ولعل السبب في ذلك فقدان جزء من الكتاب، إلا أنها ظهرت في مقدمةٍ لأحد كتبه الأخرى!

فللبيهقي على كتابه (دلائل النبوة) مقدمة، جعلها مدخلاً له. تعرض فيها لبعض قواعد الحديث، المتعلقة بحجيته في غالبها (7).

فكان مما ورد فيها، مما يدل على تأثره بأصول الفقه، وعلى محاولته تثبيت أصول عقيدته الأشعرية: أنه قسم الحديث إلى متواتر وآحاد، وأن المتواتر يفيد العلم، وأن الآحاد ـ كما ألمح إليه ـ لا يحتج بها في العقائد. وقد سبق نقل كلامه هذا، في موطن سابق من هذا البحث (8).

وهذا التقسيم واضحة فيه النزعة الأصولية، بل والأشعرية. وعلى كل حال؛ ففي مقدمة (دلائل النبوة)، وأيضاً في مقدمة (معرفة السنن والآثار) (9) للبيهقي = مباحث حديثية، يغلب عليها النقل عن الإمام الشافعي؛ وفيها ايضاً مباحث أصولية. وبعد البيهقي، لم نزل في القرن الخامس الهجري، لكن ننتقل إلى أقصى المغرب الإسلامي حينها!

نقف مع الإمام أبي عمر ابن عبد البر الأندلسي (يوسف بن عبد الله محمد النمري، المتوفى سنة 463هـ)، حيث كتب مقدمةً حافةً لكتابه العظيم (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)، خصها لعلوم الحديث وشرح مصطلحه.

قال ابن عبد البر: ((باب: معرفة (المرسل) و (المسند) و (المنقطع) و (المتصل) و (الموقوف) و (معنى التدليلس):

هذه أسماء اصطلاحية، وألقاب اتفق الجميع عليها. وأنا ذاكر في هذا الباب معانيها، إن شاء الله.

(ثم قال:) اعلم ـ وفقك الله ـ أني تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط (الصحيح) في النقل منهم ومن لم يشترطه ... ) (1).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015