وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول): ولفظ (التسلسل) يراد به التسلسل في المؤثرات, وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل, وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء, وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي بأن يستعاذ بالله منه, وأمر بالانتهاء عنه, وأن يقول القائل: (آمنت بالله) , كما في الصحيحين عن أبي هريرة , قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته.

وفي رواية: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال فأخذ حصى بكفه فرماهم به ثم قال: قوموا قوموا صدق خليلي.

وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله.

ولعله يتضح لك أيها السائل ولزميلك الذي أورد عليك الشبهة, مما ذكرنا من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم ما يزيل الشبهة ويقضي عليها من أساسها ويبين بطلانها; لأن الله سبحانه لا شبيه له, ولا كفو له, ولا ند له, وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله, وهو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق.

وقد أخبرنا في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم, بما يجب اعتقاده في حقه سبحانه, وبما يعرفنا به ويدلنا عليه من أسمائه وصفاته وآياته المشاهدة, من سماء وأرض وجبال وبحار وأنهار وغير ذلك من مخلوقاته عز وجل, ومن جملة ذلك نفس الإنسان فإنها من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته وكمال علمه وحكمته, كما قال عز وجل: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) وقال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

أما كنه ذاته وكيفيتها وكيفية صفاته فذلك من علم الغيب الذي لم يطلعنا عليه, فالواجب علينا فيه: الإيمان والتسليم وعدم الخوض في ذلك, كما وسع ذلك سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان, فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولم يسألوا عنه, بل آمنوا بالله سبحانه, وبما أخبر به عن نفسه في كتابه, أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يزيدوا, مع إيمانهم بأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وعلى كل من وجد شيئا من هذه الوساوس, أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكارا شديدا, وأن يقول: آمنت بالله ورسله, وأن يستعيذ بالله من نزغات الشيطان, وأن ينتهي عنها ويطرحها كما أمر الرسول بذلك في الأحاديث السابقة, وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيمان, وعليه أن لا يتمادى مع السائلين في هذا الباب; لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير وإلى شكوك لا تنتهي فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم, والتمسك به والتعويل عليه, وعدم الخوض فيه, وهذا هو الموافق لقول الله عز وجل: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

فالاستعاذة بالله سبحانه, واللجوء إليه وعدم الخوض فيما أحدثه الموسوسون وأرباب الكلام الباطل من الفلاسفة ومن سلك سبيلهم, من الخوض في باب أسماء الله وصفاته وما استأثر الله بعلمه, من غير حجة ولا برهان - هو سبيل أهل الحق والإيمان , وهو طريق السلامة والنجاة والعافية من مكايد شياطين الإنس والجن, وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للسلامة من مكائدهم، ولهذا لما سأل بعض الناس أبا هريرة رضي الله عنه عن هذه الوسوسة: حصبهم بالحصى ولم يجبهم على سؤالهم, وقال: صدق خليلي.

ومن أهم ما ينبغي للمؤمن في هذا الباب: أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وتدبره; لأن فيه من بيان صفات الله وعظمته وأدلة وجوده, ما يملأ القلوب إيمانا ومحبة وتعظيما, واعتقادا جازما بأنه سبحانه هو رب كل شيء ومليكه وأنه الخالق لكل شيء والعالم بكل شيء, لا إله غيره ولا رب سواه.

كما ينبغي للمؤمن أيضا أن يكثر من سؤال الله المزيد من العلم النافع, والبصر النافذ, والثبات على الحق, والعافية من الزيغ بعد الهدى, فإنه سبحانه قد وجه عباده إلى سؤاله, ورغبهم في ذلك ووعدهم الإجابة, كما قال عز وجل: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وأسأل الله أن يوفقنا وإياك وزميلك وسائر المسلمين للفقه في الدين, والثبات عليه, وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن, ومن مكايد شياطين الإنس والجن ووساوسهم, إنه ولي ذلك والقادر عليه, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.

مجموع الفتاوي: (1/ 57)

ند له, وأنه الخلاق العليم الحكيم الخبير, يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس ومحاربتها, واعتقاد بطلانها, ولا شك أن ما ذكره لك هذا الزميل من جملة الوساوس, وقد أحسنت في جوابه ووفقت للصواب فيما رددت به عليه زادك الله علما وتوفيقا.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015