وخالف عشرتهم: أبو جعفر النفيلى، فرواه عَنْ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، فقال ((عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أبيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)). أخرجه البيهقى ((الكبرى)) (6/ 14) من طريق الفضل بن محمد البيهقى ثنا أبو جعفر النفيلى به هكذا.
قال أبو بكر البيهقى: ((والمحفوظ قول الجماعة)).
قلت: ما أروع هذا الحديث القدسى وما أبهاه!، وما أصدق راويه وأزكاه!. فكل فقرةٍ من فقراته تشهد له بأنَّه خرج من مشكاة النبوِّة، التى لا ينطق حامل نبراسها عن هوى ((إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)) (4: سورة النجم).
وَقَدْ أَحْسَنَ إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ أبُو عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِىُّ صُنْعَاً إِذْ أَوْدَعَهُ ((صَحِيحَهُ))، وَزَيَّنَهُ بِهِ.
ولم يصب المدعو حسَّان عبد الْمنَّان ـ عفا الله عنه ـ إذ ضعَّف هذا الحديث، وأودعه ذيل نسخته الممسوخة من السفر المبارك لشيخ الإسلام أبى زكريا النووى ((رياض الصالحين)). ولم يُسبق لمثل هذا الصنيع بواحدٍ من أئمة التحقيق الراسخين فى هذا العلم، اللهم إلا الشيخ الألبانى ـ طيب الله ثراه ـ، وظنى أنه تراجع عن تضعيفه، وأجمل به لو فعل!.
ومما قاله المدعو حسَّان فى ثنايا تضعيفه، مصرحاً بجهالته، وقلة معرفته بكلام أئمة الجرح والتزكية ((تفرَّد به يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ ولم يتابع، وليس له فى البخارى موصولاً غير هذا الحديث. ولا يحتمل التفرد، لأن عنده سوء حفظ، وشهد على ضعفه جمع، وأعدل ما قيل فيه، قول أبى حاتم: شيخ صالح محله الصدق، ولم يكن بالحافظ، يكتب حديثه ولا يحتج به)).
ولم يدر المسكين أن ما حكاه عن الإمام أبى حاتم الرازىِّ ليس بحجَّة لما ادعاه، فقد خفى عليه دقائق معانيه، وسيأتى بيان مقصده.
والحديث بإسناد الجماعة، وبرواية إمام المحدثين وأستاذ أهل المعرفة بعلل الحديث أبِى عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِىِّ، صحيح غريب، ووجه غرابته؛ أنه لم يرويه عن سعيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غير إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، تفرد به عنه يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطائفى، أبو محمد القرشى الحذاء
وقد اختلفت أئمة الجرح والتعديل فى تعديله على أربعة أقوال:
(الأول) توثيقه مطلقاً. فقد عدَّه الإمام الشافعى من ثقات شيوخه وصالحيهم، فقال: كان يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ فاضلا، كنا نعده من الأبدال. وقال ابن سعد ((الطبقات)) (5/ 500): ((ثقة كثير الحديث)).
وقال ابن أبى حاتم ((الجرح والتعديل)) (9/ 156): ((قرئ على العباس بن محمد الدوري قال: سألت يحيى بن معين عن يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطائفي فقال: ثقة)). وقال ابن عدى ((الكامل)) (7/ 219): ((ثنا ابن حماد حدثني عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: كان يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ قد أتقن حديث ابن خثيم، وكانت عنده في كتاب، فقلنا له: أعطنا كتابك، فقال: أعطوني مصحفا رهنا، فقلنا: نحن غرباء من أين لنا مصحف!!. ثنا ابن أبى عصمة ثنا ابن أبى بكر ثنا يحيى سمعت أحمد بن حنبل يقول: يحيى بن سليم ثقة، وسمعت يحيى يقول: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطائفي ليس به بأس. ثنا علان ثنا ابن أبى مريم سمعت يحيى بن معين يقول: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ ليس به بأس يكتب حديثه. ثنا محمد بن علي ثنا عثمان بن سعيد سألت يحيى بن معين عن يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ فقال: ليس به بأس يكتب حديثه. ثنا محمد بن علي ثنا عثمان بن سعيد: سألت يحيى بن معين عن يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطائفي، فقال: ثقة. ثنا ابن أبى بكر ثنا عباس: سألت يحيى بن معين عن يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ الطائفي، فقال: ثقة)).
وقال ابن عدى: ((وليَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ عن: إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وعُبِيدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وعَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، وسائر مشايخه أحاديث صالحة وأفراد وغرائب، يتفرد بها عنهم، وأحاديثه متقاربة، وهو صدوق لا بأس به)).
وقال أبو أحمد العجلى ((معرفة الثقات)) (2/ 353/1980): ((يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ القرشي ثقة)). وقال أبو حفص بن شاهين ((تاريخ أسماء الثقات)) (1/ 259/1591): ((ثقة. قاله يحيى)).
والخلاصة، فهؤلاء جماعة من كبراء أئمة التزكية والتعديل قد وثقوا يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ بإطلاقٍ: الشافعى، والزعفرانى، وأحمد بن حنبل فى روايتين عنه، وابن معين، وابن سعد، والعجلى، وابن حبان، وابن عدى، وابن شاهين.
ولا يذهبنَّ عنك توثيق أحمد بن حنبل له فى رواية ابنه عبد الله عنه، وقوله: ((كان قد أتقن حديث ابْنِ خُثَيْمٍ))، إذ يفيدك هذا المقال لإمام الأئمة ثلاث فوائد عزيزة:
(الأولى) وصفه بالإتقان والضبط لأحاديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ المكى، وفيه دلالة على إتقانه لأحاديث أهل بلده.
(الثانية) تبرئته من الوصف بسوء الحفظ بإطلاقٍ، وفيه رد على قول الدارقطنى والحاكم: كان سيئ الحفظ، ولا يشك العارف المدقق أن الإمام أحمد أعرف منهما وممن أتى بعدهم بحاله، سيما وقد التقى به، وحمل عنه حديثاً واحداً.
(الثالثة) توثيق الإمام أحمد له فى روايتين عنه، خلافاً لمن زعم أن الإمام أحمد لم يوثقه.
وهذه الفوائد قد كانت تكفى لبيان حال يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، والرد على من ضعَّفه، ولكننا:
نزيدك إيضاحاً وتبصيراً بمعانى هذه الفوائد الثلاث، بذكر خمسة أحاديث من صحاح أحاديثه عن بلديه عَبْدِ اللهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ الْمَكَّى.
¥