وهذا الطور لا شك أنه أخذ حجماً كبيراً، وميداناً واسعاً في كثرة التأليف في فن "علم الحديث"، حتى إنك قد تعجز عن حصر الكتب التي اعتنت بهذا الفن، لذا لن نتوسع في ذكر كتب المصطلح التي صنفت في هذه الحقبة الزمنية خشية الإطالة والخروج عن مقصدنا؛ ومنه سنكتفي ـ إن شاء الله ـ بذكر كتابين عظيمين، وكذا ما تعلق بهما سواءاً اختصاراً، أو شرحاً، أو تنكيتاً، أو تعليقاً؛ لأنَّ في ذكرهما وذكر ما تعلق بهما كفاية، ووفاية ـ والله أعلم ـ، وهما:
الأول: كتاب: "معرفة أنواع علم الحديث"، للإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ.
الثاني: كتاب: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، للإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ.
كتاب: "معرفة أنواع علم الحديث":
ثم بعد هذا وذاك جاء الحافظ ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشَّهْرَزُورِي، الشافعي (577 ـ 643 هـ)، فألف كتابه العظيم في علوم الحديث المسمى بـ "معرفة أنواع علم الحديث"، وقد اشتهر أخيراً بـ "مقدمة ابن الصلاح"، ووقف التأليف في "علوم الحديث"، عند كتابه هذا، فإنه جمع فيه عيونه، واستوعب فيه فنونه.
وغدا هذا الكتاب ـ لمحاسنه الجمة، وتفوقه على كل من سبقه ـ المنهل العذب المورد في المصطلح لكل حديثي ومحدث وعالم، وتوجه العلماء من بعده إليه بشرحه، أو اختصاره، أو تحشيته، أو نظمه.
قال الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ عنه: " ... إلى أن جاء الشيخ تقي الدين ابن الصلاح، فجمع "مختصره" المشهور، فأملاه شيئاً بعد شيء لما ولي تدريس دار الحديث الأشرفية ـ بدمشق ـ فهذب فنونه، ونقح أنواعه، ولخصها، واعتنى بمؤلفات الخطيب، فجمع متفرقاتها، وشتات مقاصدها، فصار على كتابه المعوَّل، وإليه يرجع كل مختصر ومطول". انتهى.
وعنه يقول الحافظ ابن حجر: "فهذب فنونه، وأملاه شيئاً بعد شيء؛ فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب، وضم إليها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره؛ فلهذا عكف الناس عليه، وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرِك عليه ومقتَصر، ومعارضٍ له ومنتصر! " (20).
فإذا علم هذا فإننا نجد أهل العلم لم يألوا جهداً في العناية بكتاب ابن الصلاح ـ هذا ـ ولذا تضافرت جهودهم في الاهتمام به شرحاً، أو نظماً، أو اختصاراً، أو تنكيتاً، أو تعليقاً، أو تعقيباً، وهكذا لم يبرحوا عن متابعة خدمة هذا الكتاب الجليل، وهو كذلك؛ فقد أتعب ابن للصلاح ـ رحمه الله ـ من بعده، وحاز سعده؛ حيث أصبح كتابه همّاً للاحقين، ومفزعاً للطالبين، والله يؤتي الفضل من يشاء من العالمين، والحمد لله رب العالمين.
هذا، وبقي كتاب الحافظ ابن الصلاح: "معرفة أنواع علم الحديث" المنهل الوحيد المفضل في علم المصطلح نحو مائتي سنة حتى جاء الإمام الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ فألف رسالته المختصرة التي سماها: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، كما سيأتي الكلام عنها ـ إن شاء الله ـ.
نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر:
لقد ألف الإمام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، المشهور بابن حجر ـ رحمه الله ـ (773 ـ 852 هـ)، أمير المؤمنين في الحديث، رسالته المختصرة الجامعة التي سماها: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، ثم شرحها بالكتاب الذي اشتهر ـ أيضاً ـ باسم: "نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر"، فاتجهت أنظار العلماء إليه، وعوَّلوا في علم المصطلح عليه؛ لاختصاره وتنسيقه، وتمحيصه وتحقيقه، واحتوائه لزيادة جملة هامة من أنواع علم الحديث خلت عنها مقدمة الحافظ ابن الصلاح؛ فمن ثم صارت "نخبة الفكر"، وشرحها محل الدرس والنظر من علماء الأثر، فكثر شراحها، ومختصروها، وكاتبوا حواشيها، وناظموها، كثرة بالغة كادت تبلغ ما بلغته مقدمة ابن الصلاح؛ فلا يحصى كم ناظم لها ومختصر، ومستدرك عليها ومقتصر، ومعارض لها ومنتصر (21)!
ومن خلال ما ذكرناه عن كتاب ابن حجر ـ رحمه الله ـ فإنه لم يكن أقل حظاً من كتاب ابن الصلاح؛ لذا نجد أهل العلم ـ أيضاً ـ لم يألوا جهداً في العناية به؛ حيث تضافرت جهودهم في الاهتمام به سواءاً: شرحاً، أو نظماً، أو اختصاراً، أو تنكيتاً، أو تعليقاً، أو تعقيباً.
الهوامش:
(1) انظر كتاب:" شرح الألفية" للحافظ العراقي (3).
¥