وقد نبه على هذا التعارض الواضح مع الحقائق العلمية الواقعة لأطوار الجنين علماؤنا الأجلاء السابقون فقال ابن رجب الحنبلي: بعدما أورد حديث ابن مسعود برواية الإمام أحمد والتي تشبه رواية البخاري فضعف متنه وسنده حيث قال: ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يكسى إلا بعد مائة وستين يوما، وهذا غلط لا ريب فيه، وعلى ابن زيد هو ابن جدعان لا يحتج به (13).
وقال في موضع آخر: وظاهر حديث ابن مسعود يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية، فيلزم من ذلك أن يكون في أول الأربعين الثانية لحما وعظما (13).
3. التعارض مع الوصف القرآني لأطوار الجنين حيث لا ينطبق التفسير للوصف القرآني مع الطور الموصوف؛ فالجنين في اليوم العشرين أو التاسع والثلاثين لا يمكن وصفه كقطرة الماء ويختلف في شكله وحجمه عنها على وجه القطع.
والجنين في اليوم الستين أو السبعين لا يمكن وصفه بأنه على شكل الدودة التي تعيش في البرك وتمتص الدماء أو أنه يظهر على شكل قطعة دم جامدة حيث يكون الجنين في هذه الفترة قد تشكل وتطور وتم خلق جميع أعضائه. والجنين بعد اليوم الثمانين وإلى اليوم المائة والعشرين لا يمكن وصفه بحال مضغة لا شكل فيها ولا تخطيط وأنه مخلق وغير مخلق حيث تكون أجهزة الجنين نفسه في منتهى الحيوية والنشاط ويمارس جميع حركاته وانفعالاته.
2. رواية الإمام مسلم تحل الخلاف:
إنه لما كان اسم الإشارة في قوله " مثل ذلك " لفظا يمكن صرفه إلى واحد من ثلاثة أشياء ذكرت قبله في الحديث، وهي: جمع الخلق، وبطن الأم، وأربعين يوما؛ فهو لفظ مجمل يحمل على اللفظ المبين للمقصود من اسم الإشارة في قوله، والذي يبين لنا ذلك حديث حذيفة الذي يمنع مضمونه أنه يعود اسم الإشارة على الفترة الزمنية (أربعين يوما) لأن النص المجمل يحمل على النص المبين حسب قواعد الأصوليين ولا يصح أن يعود اسم الإشارة على (بطن الأم) لأن تكراره في الحديث لا يفيد معنى جديدا وسيكون حشوا يتعارض مع فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان اسم الإشارة في الحديث لا يصح إعادته إلى الأربعين يوما الأولى، ولا إلى بطن الأم، فيتعين بناء على ذلك أن يعود اسم الإشارة في قوله (مثل ذلك) على جمع الخلق، لا على الأربعينات، وهو ما توصل إليه وحققه ابن الزملكاني في القرن السابع الهجري واستنتج من ذلك أن النطفة والعلقة والمضغة تتم خلال الأربعين يوما الأولى (10).
قال ابن الزملكاني: (وأما حديث البخاري فنزل على ذلك، إذ معنى يجمع في بطن أمه، أي يحكم ويتقن، ومنه رجل جميع أي مجتمع الخلق. فهما متساويان في مسمى الإتقان والإحكام لا في خصوصه، ثم إنه يكون مضغة في حصتها أيضا من الأربعين، محكمة الخلق مثلما أن صورة الإنسان محكمة بعد الأربعين يوما فنصب مثل ذلك على المصدر لا على الظرف. ونظيره في الكلام قولك: إن الإنسان يتغير في الدنيا مدة عمره ثم تشرح تغيره فتقول: ثم إنه يكون رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا ثم هرما ثم يتوفاه الله بعد ذلك. وذلك من باب ترتيب الإخبار عن أطواره التي ينتقل فيها مدة بقائه في الدنيا.
ومعلوم من قواعد اللغة العربية أن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي بين الخبر قبلها وبين الخبر بعدها، إلا إذا جاءت قرينة تدل على أنها لا تفيد ذلك مثل قوله تعالى:" ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثم آتينا موسى الكتاب .. ) ومن المعلوم أن وصية الله لنا في القرآن جاءت بعد كتاب موسى، ف (ثم) هنا لا تفيد ترتيب المخبر عنه في الآية. وعلى هذا يكون حديث ابن مسعود: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك (أي في ذلك العدد من الأيام) علقة (مجتمعة في خلقها) مثل ذلك (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين) ثم يكون في ذلك (أي في نفس الأربعين يوما مضغة مجتمعة مكتملة الخلق المقدر لها) مثل ذلك أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين يوما (14) 1هـ
¥