هذه الدعوى هي التي تُقال نظرياً، لكنك تجد أن عامة المتأخرين قد تجكموا تحكما واضحاً في صياغة أنواع علوم الحديث وتحديدها، فظهر ما سُمي بـ (تطوير المصطلحات) و الذي نتج عنه (تحوير) لدلالاتها ولحدودها. فمثلاً: تجد الإمام ابن الصلاح - رحمة الله تعالى عليه - يصرّح بأن المتقدمين يطلقون العِلة على نحو يتفقون عليه، ثم أنه - هو - يتصرّف فيها ويعرفها بغيره (لا أريد الخوض في هذا المثال حتى لا يتداخل الكلام، ويمكن تأجليها) وقُل مثل ذلك في:

- الشاذ .... الخ.

- والمرسل ... الخ.

فالحاصل أن هذه العلوم مأخوذة من مجموع كلام المتقدمين هذا لا غبار عليه نظرياً، لكن عندما تمارس تجد حدوداً تكاد (تضلل) نظر الباحث عن مراد المتقدمين أو عامتهم، بحيث تصبح كَلا على علم الحديث لا وسيلة إليه.

وهناك أمر آخر في هذا الصدد جد مهم:

وهو أنهم يفرّعون على قواعد فروع نظرية جميلة سهلة الفهم، سهلة التطبيق فيما يُظن، حتى إذا حاولت تطبيقها - وربما تصورها - عمليا أعجزك ذلك، وهذه بعض الأمثلة:

- الحد بين الصحيح والحسن: هو عندهم اختلاف الضبط من تمامه في راوي الصحيح، إلى خِفته في راوي الحسن، فإذا أتيت تطبق لم يغن عنك هذا الكلام شيئاً، بل ينبغي أن تنعم النظر في حال الراوي عموما، وروايته هذه بين الرويات وأحاديث الباب خصوصاً، ثم تُجري هذا على كل راوٍ، وتتبع كل ما أمكنك من كلام عنه (تدليس، اختلاط، إرسال ... )، وذِكر لغرائبه ومناكيره، وحكم على رواياته ونُسَخِه، وتلقيه في رحلاته ... الخ، ثم تنتقل إلى المتن فتنظر في دلالاته، وما روي في بابه ... الخ، ثم تنتقل إلى كتب العلل، والسؤالات، والمسانيد المعللة، والكتب التي تنقل أحكام أهل العلم ... ، ثم بمجموع كل ما سبق تحكم على الحديث أنه في درجة عالية من درجات المحتجِّ به، أو في درجة دونها - وهو الحسن - أو هو دون درجة الاحتجاج، وهي على مراتب كثيرة معلومة ...

فأنظر - بارك الله فيك - ماذا فعلتَ عملياً، وأنظر إلى الفرق النظري.

مثال آخر:

النظر في المتابعات والشواهد، تجد أن هناك حداً درج عليه المتأخرون بلا نكير بينهم، وهو أن الطريق الضعيف القابل للتقوي لابد أن يعضده ما كان من درجته في الضعف أو فوقه، ولا يعضده ما كان دونه، وهذا كلام نظري جميل، لكن عند التطبيق يطول عجبك، وهذا مثال لمحاولة تطبيق هذه القاعدة وبيان العجب فيها:

إذا وقفتَ على طريق من رواية رجل خلصتَ إلى أنه صدوق له أوهام، فإنه لا يُحتجّ به استقلالا في الجملة، ثم وقفتَ على طريق آخر مداره على صدوق يهِم، وهو لا يُحتجّ به استقلالا في الجملة أيضاً، فهل يمكن أي يتقوى أحدهما بالآخر؟

إذا طبقت القاعدة التي درجوا عليها فالنتيجة كما يلي:

إذا ابتدأتَ في النظر بالطريق الأولى فلا يتقوى لأن الطريق الآخر دونه في الضعف (نظريا)، وإذا ابتدأتَ بالطريق الثاني أمكن يتقوى به لأنه أقلّ ضعفاً، فهو فوقه لا دونه، فهل عجبتَ من هذا؟!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015