منه أن استفيد من تجربته التي دامت أكثر من عشرين سنة، إلا أن الاستفادة العظمى لي ستكون من عمر الأمة كلها التي امتد لأربع عشر قرنا من الزمن. والأعظم، الاستفادة من كلام من بلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لولاهم ما بلغنا هذا الأمر.

ولعلي انتهز هذا المقام لبيان أمر ذكره الله تعالى في سورة المدثر التي يفتتح الأخ عدنان الرفاعي كتابه ببعض آياتها، هذا الأمر هو في قوله تعالى: فقتل كيف قدر، وهي الآية عدد 19 من السورة. ولعلي أسأل: لماذا قتل كيف قدر؟ وقد فكر وقدر، والله يدعونا إلى التفكير؟

أما كلمة قتل، فتذكر عند التعجب واستعظام الأمر، فاستعظم عليه أن فكر وقدر قبل أن ينظر، ولم يستعظم منه، لأن هذا منهج من لا يستحكم إلى منطق، وهم العقلانيون، الذين يصرفون كل شيء إلى العقل، وليس كل شيء يصرف إلى العقل. لذلك أخطأ هؤلاء في كثير من المسائل. وخطؤهم هو خطأ منهج، لأن البحث في مسألة يستوجب تدبرها على مراتب منها النظر و الفكر و العقل و المشاهدة أو بعض هذه المراتب أو جميعها، ويستوجب المعرفة بترتيب المراتب الذي يوصلنا إلى الحق. فإنك مثلا إن انطلقت من مسألة خاطئة وفكرت كانت النتيجة بحسب تقديرك أنت الذي يحمله هواك، ومع ذلك لن تجد ما يعارض العقل في تقديرك ذاك، ولكنك ستجد ما يعارض المنطق إن كنت عالما بالمنطق لاستنادك إلى مسألة خاطئة. وكذلك الشأن إذا انطلقت من مسألة لا تحيط بها، ذلك أنها قد تحمل خصائص لا تعرفها تقلب النتيجة التي قدرتها عند غيرك بمعرفة غيرك إياها. وإنما ذكرت هذا الكلام لأني أرى من المسلمين من ينزل العقل منزلة فوقية على الأشياء، كأنه ما قرأ القرآن وما درس مناهج البحث فيه، ولو درس تلك المناهج واتبعها لكان أجل له من أن يقع في أخطاء قد يحملها عنه غيره ويتحمل وزرها. وأنا أقصد، ناصحا، من يقول أن الناسخ والمنسوخ ليس من القرآن، والذين يقولون بالتشكيك في بعض المسائل التي حملها الصحابة بيقين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولعلي أحملكم في هذا المقام إلى الآية 18 من سورة المدثر:

قال الله تعالى: إنه فكر وقدر .. والتفكير ليس وحده بابا للتقدير في كثير من المسائل، التي منها الكلام عن القرآن، لذلك استعظم عليه أن يقدر، فقال تعالى: فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر .. وهذه الآية تدل على ركاكة ذلك المنهج وسقوطه.

ثم قال تعالى: ثم نظر .. وإنما فعل ذلك استيفاء لشروط العقل حيث جعل الفكر السابق للتقدير ملحقا بالنظر، وهو وهم منه أن ذلك يستوفي تلك الشروط.

فلما نظر كانت النتيجة على غير ما قدر، لأن المنهج الذي ابتدعه وقدر وفقا لشروطه هو في الأصل منهج خاطئ، لذلك قال تعالى: ثم عبس. ولو وافق نظره ما كان قدره لكان فرح بما قدر، والعبس هو تقطيب ما بين العينين. وإمعانا في توهمه أنه يستوفي شروط العقل، قال تعالى: وبسر .. وهو الاهتمام والتفكير فيما كان عبس لأجله ..

وهو بالتفكير الثاني، كان يستطيع أن يصوب تقديره في الأول، لأنه جاء بعد نظر، لكنه ما فعل وهو سر قوله تعالى: ثم أدبر واستكبر. فالإدبار دليل على أنه ابتعد حتى لا يسأل عن الدليل، لأن دليله أصلا بخلاف المنطق. والاستكبار دليل على تشبثه بتقديره الذي علم بالنظر أنه خاطئ. والله تعالى أعلم.

ولعلي أذكر مسألة فيما يخص مناهج التفكير والاستنباط، يرويها بعض الشيعة عن محمد بن جعفر أنه جاء أبا حنيفة النعمان وقال له: بلغني يا أبا حنيفة أنك تستعمل القياس، فقال له: بلى، فقال له: لا تفعل فإن أول من استعمل القياس ابليس قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ثم قال: ماهو الأكثر نجاسة المني أو البول، فقال له أبو حنيفة: البول، فقال: فكيف يفرض فيه الوضوء ويوجب في المني الغسل، ثم قال: ما هي الفريضة الأولى على الناس الصلاة أم الصيام، أو ذكر شيئا من هذا القبيل، فقال له أبو حنيفة: الصلاة، فقال له: فكيف تقضي البنت الصيام إذا حاضت ولا تقضي الصلاة .. وذكروا مسألة أخرى نسيتها، والمسائل التي ذكرها محمد بن جعفر، إن صح أنه ذكرها، لا يصح فيها القياس .. كما أن قوله أن أول من استعمل القياس ابليس، لعنه الله، فيه نظر .. فالأولى أن يقول أنه أول من أخطأ في القياس لأنه قاس ما لا يقاس .. أما القياس فهو منهج كامل يدعونا الله تعالى للمعرفة به، وهو مبثوث في

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015