(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18))

تطيرنا بكم أي تشاءمنا بكم فلم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا. وقج تقول لقد قال في سورة النمل في قوم صالح (قالوا اطيرنا بك وبمن معك (47) النمل) فأبدل وأدغم فلم لم يقل ههنا كما قال ثمَّ؟ والجواب أنا ذكرنا في كتابنا بلاغة الكلمة في التعبير القرآني أن (اطّير) ونحوه كادّبّر واطّهّر أبلغ من (تطير) ونحوه لمكان التضعيف في الفاء زيادة على تضعيف العين فدل على أن التطير في سورة النمل أشد منه مما في هذه الآية، يدل على ذلك أنهم في هذه الآية هددوهم بالرجم والتعذيب إن لم ينتهوا. وأما في سورة النمل فقد تعاهدوا وتقاسموا بالله على قتله مع أهله (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله (49) النمل) فدل على أن تطيرهم في سورة النمل أقوى وأشد.

وقد تقول إذا كان الأمر كذلك فلم إذن أكّد التطير بـ (إنّ) في سورة يس فقال (إنا تطيرنا بكم) ولو يؤكده في سورة النمل فإنه قال (قالوا اطيرنا)؟ والجواب أنه لا يلزم في الكلام توكيد كل فعل فيه مبالغة وشدة دوما فإنه إذا ذكر المتكلم فعلاً أقوى وأبلغ من فعل أو وصفاً أقوى من وصف لا يلزمه أن يؤكد الفعل أو الوصف الأقوى منهما وإنما يكون ذلك بحسب الغرض فله أن يؤكد أي واحد منهما بحسب ما يقتضيه الكلام فله أن يقول مثلاً (اصطبرت عليك وإني صبرت على فلان) فيذكر الإصطبار من دون توكيد ويؤكد الصبر مع أن الاصطبار أبلغ وأقوى من الصبر لأن الغرض من العبارة أن يخبر باصطباره عليه ويؤكد صبره على الآخر.

ولك أن تقول (إنه كاذب) فتؤكد إسم الفاعل وتقول (هو كذاب) فلا تؤكد صيغة المبالغة مع أن المبالغة أقوى من إسم الفاعل ولا يلزم من مبالغة الوصف التوكيد وإنما يكون ذلك بحسب الغرض. قال تعالى (وإنهم لكاذبون) في أكثر من موطن فأكّد بـ (إنّ) واللام.

وقال (هذا ساحر كذاب (4) ص) و (بل هو كذاب أشر (25) القمر) ولم يؤكد مع أن (كذاب) صيغة مبالغة فأكد إسم الفاعل ولم يؤكد المبالغة.

والذي أريد أن أخلص إليه أن المبالغة في الفعل والوصف لا تقتضي التوكيد دائماً وإنما ذلك بحسب الغرض والمقام فلك أن تؤكد أيّ فعل أو وصف أو لا تؤكده ولك أن تؤكد ما هو أقل مبالغة ولا تؤكد الأقوى وبالعكس فكل ذلك إنما يكون بحسب ما يقتضيه الكلام. وإيضاح ذلك أنك قد تذكر شخصاً هو موضع ثقة كبيرة عند من تخاطبه فتقول له (هو كاذب) فينكر ذلك عليك فتؤكد ذلك بقولك (إنه كاذب) ثم ينكر عليك قولك إنكاراً أشد ن الأول فتقول له (إنه لكاذب). وتقول عن شخص آخر معروف بكثرة الكذب (هو كذاب) فلا تحتاج إلى توكيد لأن مخاطبك لا ينكر ذلك عليك. فأنت احتجت إلى أن تؤكد إسم الفاعل دون المبالغة.

ونعود إلأى الآيتين فنقول إن قوم صالح أخبروه بتطيرهم الشديد وأما أصحاب القرية فإنهم أكدوا تطيرهم وهو نظير قولنا (اصطبرت عليك وإني صبرت على فلان) أو (هو مكتسب وإن زيداً كاسب) فيؤكد الأقل دون الأقوى.

إنه في آية يس قوله (قالوا اطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) أكد التطير بـ (إنّ) وفي آية النمل وهي قوله (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) لم يؤكده ذلك أن كل موطن يقتضي ما ذكر فيه.

فإن أصحاب القرية أطالوا في كلامهم ولم يكتفوا بذكر التطير وإنما هددوهمبالرجم والتعذيب فقالوا (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) في حين كان الكلام موجزاً في سورة النمل فقد ذكروا التطير ولم يهددوهم بشيء فناسب الإيجاز الإيجاز وناسب التفصيل التفصيل. ولا شك أن القول (تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب الأيم) أطول من (اطيرنا بك وبمن معك). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن أصحاب القرية هددوهم بالرجم والتعذيب مؤكدين ذلك بالقسم ونون التوكيد (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) فناسب ذلك توكيد التطير في حين أن قوم صالح لم يهددوهم بشيء فناسب التوكيد في آية يس دون آية النمل. وهناك أمر آخر وهو أن رهطاً من قوم صالح كانوا يدبرون له ولأهله أمراً خفياً لا يريدون إشاعته ولا أن يعلم به غيرهم وهو أن يبيتوه وأهله بليل أي أن يغيروا عليهم ليلاً ويقتلوهم من دون أن يعلم أحد ثم إنهم إن سئلوا عن ذلك أجابوا أنهم لا يعلمون ذاك وقد تعاهدوا على ذلك وأقسموا عليه

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015