هذا العصر وذكر في مقدمة العدد الأول من سلسلته أن اللغة المستخدمة في هذا العصر هي لغة الأعداد والأرقام، ولم يعد للكلام قيمة كالعدد، وبما أن القرآن معجز في كل زمان، وكان إعجازه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والعصور الأولى هو في أسلوبه وبيانه، وكانت اللغة العربية هي المتعامل بها، فإننا الآن نتعامل بالعدد والرقم ولم يعد الناس يفهمون اللغة العربية، والقرآن لاينفك عن الإعجاز في كل زمان فلا بد أن يكون اليوم إعجازه من نوع آخر، ألا وهو الإعجاز العددي حتى نثبت للعالم أن القرآن معجز في كل زمان. (الكلام مع تصرف مني)، وكان عمله في عد كلمات الآية ثم تقسمها ومعرفة جذرها ليخرج بنتيجة أن أكثر الآيات تقبل تعود لجذر العدد 33 مثلاً
ولست بصدد الرد على هذه المغالطات والحجج الباطلة، ولكني عرضت لهذا الأمر من أجل أن نعلم أن مصطلح (الإعجاز العددي) وليد أبوين غير شرعيين وهما: الفرق الباطنية، والتأثر بالمستوردات الغربية ما هب منها وما دب مع ضعف الوعي والتسلح بالعلم الشرعي.ومعرفة هذا يفيدنا للحذر من أبعاد هذا الفن على العقيدة والشريعة والبحث في حيثياته للحكم عليه.
ثم أنتقل الآن للتعليق على ما سبق من كلام الأخوة:
أولاً:استدلال الأخ ناصر بحديث عمر رضي الله عنه واستدلال ابن عباس على كون ليلة القدر هي السابع والعشرون فقال: (فابن عباس رضي الله عنه نظر إلى تكرر رقم سبعة في عدد من آيات القرآن الكريم، مما يدل على أن له معنى خاصا، فجعله أمارة يستنبط منها أن ليلة القدر الوارد ذكرها في قوله تعالى: (إنا أنزلنا في ليلة القدر) هي ليلة السابع من العشر الآواخر من رمضان، وهذا لا يمنع أن يكون رضي الله عنه استند في فهمه إلى قرائن أخرى).ليس دليلاً على وجود الإعجاز العددي أو ما سماه بالإرهاصات فالحديث أولاً ضعيف كما ذكر ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف، ثم قال ابن رجب بعدما ذكر الحديث: (وقد صح عن ابن عباس أنه كان ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين) ثم ذكر ابن رجب أن طائفة من المتأخرين استنبطت من القرآن أنهاليلة سبع وعشرين من موضعين:
أحدهما: تكرار ذكر ليلة القدر في ثلاثة مواضع، وليلة القدر حروفها تسع حروف والتسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع وعشرون.
والثاني أنه قال (سلام هي) فكلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من السورة فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة.ثم نقل ابن رجب عن ابن عطية الغرناطي أنه قال: (هذا ملح التفسير لا من متين العلم) قال ابن رجب: (وهو كما قال.).
فأمثال هذه الأمور كانت عندهم معلومة ولكنهم يعدون المشتغل بها كالمشتغل بما لا يعنيه ولذا فإنهم لم يعظموا شأنه ولم يلتفتوا إليه ولم يجعلوه إعجازاً.
أما ما ورد عن بعض المفسرين من السلف في حساب الجمل للحروف المقطعة في القرآن أوائل السور، فيقول ابن جرير الطبري رحمه الله 1/ 68 في تفسير سورة البقرة عند تفسير (ألم): (وقال بعضهم هي حروف من حساب الجمل كرهنا ذكر الذي حكى ذلك عنه إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله.).وفي هذا بيان أن مثل هذه الأمور التي تسمى بالإعجاز العددي كانت موجودة كما ذكر الأخ ناصر إلا أن السلف رضي الله عنهم كانوا يكرهونها.
ثانياً: تعريف الإعجاز العددي بما ذكره الأخ ليس جامعاً مانعاً وإنما بقتصر على نوع من الإعجاز العددي الذي يروج له أصحابه، وكما ذكر الأخ فإن التطبيقات القائمة لهذا الفن لا تنبئ عن إعجاز، وإنما هي ظواهر ـ كما اصطلح عليها الأخ ناصر ـ إن صحت وصح الإستدلال بها وصح مدركها، ولكني أرتاح لما قاله الأخ: سين ـ حبذا لو يذكر اسمه ـ أنها موافقات، أي أن المكتشفات العلمية وافقت ما أشار إليه النص القرآني من أعداد هذا إن سلمت وصحت.
ولكن ألا تشاركوني الرأي أن تساوي ذكر عدد لفظ الرجل مع المرأة في القرآن والاستدلال به هو نتيجة تأثر بالأفكار الغربية والوقوف أمامها بضعف.؟ وإلا لم لم يفطن لها إلا الآن؟
ثالثاً: من ناحية الحكم الشرعي، هل كل ما جاز عقلاً جاز شرعاً؟ فالإمام الشافعي أنكر نسخ السنة للقرآن شرعاً مع تجويزه لوقوعه عقلاً، ولكن لم يثبت لديه نسخ السنة للقرآن.
ومع أنني أوافق أخي ناصر في كثير مما قال في الفقرة الثالثة إلا أنني أنكر أن يكون لما يسمى الإعجاز العددي وجود في القرآن وكما مر فإن أمثال هذه الدراسات كانت موجودة في القرون المتقدمة إلا أنه لم يكن يأبه لها ويعطى لها مشروعية وإنما كان يتمرسها الذين يبحثون عن الغرائب، وفي نفس الوقت لم تحرم وكما قال ابن عطية فإنها ليست من متين العلم ولكننا اليوم أمام واقع سببه التطفل من قبل غير المتخصصين في الدراسات القرآنية والكتابة في أشباه هذه الأمور والترويج لها وسكوت المختصين والتردد فيها.
رابعاً:لا بد أن نفرق بين الإشارات العلمية الواردة في القرآن وبين ما يسمى بالإعجاز العددي.
خامساً صحيح أن لفظ الإعجاز لم يرد في القرآن الكريم ولم يستخدم عند الصحابة والتابعين بل كانوا يستخدمون لفظ (آية) كما ألف ابن المديني كتاباً سماه (آيات النبي صلى الله عليه وسلم) ثم استخدم لفظ (أعلام النبوة)، ويظهر أن استخدام (معجزة) و (إعجاز) بدأ في نهاية القرن الثالث الهجري وبدايات القرن الرابع الهجري عند المتكلمين، فقد ألف محمد بن يزيد الواسطي المتوفى 306 هـ كتاباً سماه (إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه) (1)، وقد ذكر السيد صقر أنه أول من ألف كتاباً يشتمل على هذا العنوان وقال: (وهي من الكتب التي لا نعرف عنها غير أسمائها المجردة).انظر إعجاز القرآن للباقلاني ص 10.مقدمة السيد أحمد صقر محقق الكتاب، واانظر فكرة إعجاز القرآن لـ نعيم الحمصي ص 7 ـ 8 ,وع ذلك لا مانع أن يصطلح أهل الفن على معنى لهذه اللفظة. والله أعلم
¥