ألا يلزم من هذا الكلام أن الصحابة قد خفي عليهم شيء من معانيه، وكذا خفي على التابعين وأتباعهم، وبقي بعض القرآن غامضًا لا يُعرف حتى جاء (التقدم العلمي!) فكشف عن هذه المعاني.
ولو كان يعتقد هذا اللازم، فالأمر خطير جدَّا. لكني لا أشكُّ ـ محسنًا الظن بقائله ـ أنه لم يتنبه لهذا اللازم الخطير، وأُراه لو انتبه له لعدَّل عبارته.
ولقد كان من نتيجة هذا التقعيد أن لا تُذكر أقوال السلف بل يذكر ما وصل إليه البحث التجريبي المعاصر، وتفسير الآية به، وهذا فيه قصر لمعنى الآية على ذلك التفسير الحادث، وهذا خطأ محضٌ.
وقد سئل آخر: لماذا لم يبين الرسول هذه الوجوه للصحابة؟
فكانت إجابته أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو أخبرهم بهذه الحقائق العلمية لما أدركوها، وقد يقع منهم شك أو تكذيب.
وهذا الجواب من أعجب العجب، فكيف يقال هذا في قوم آمنوا بما هو أعظم من هذه الحقائق الكونية، وأرى أن خطأ هذا أوضح من أن يوضَّح، وإني أخشى أن يكون هؤلاء ممن فرح بما أوتي من العلم، فنسب الجهل للصحابة الذين آمنوا بما هو أعظم من هذه الأمور.
ألم يؤمنوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسري به، ثم عرج به في جزء من الليل، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى؟ أليس هذا أعجب مما يذكره الباحثون التجريبيون؟
وقل مثله في غير ذلك مما آمنوا به وصدَّقوا ولم يعترضوا.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإني قد رأيت لأحد الفضلاء كتابًا في مناهج المفسرين، وأجاب عن سبب عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كاملاً، وكان مما أجاب به، فقال: (لضعف المستوى العلمي عند الصحابة، ولو فسره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حوت آياته من علوم ومعارف فقد لا يستوعبونها، وقد تكون محل استغراب بعضهم، والعلماء الذين جاءوا بعد الصحابة قدموا بعض المضامين العلمية للآيات، ولذلك قيل: خير مفسر للقرآن هو الزمن).
وهذا القول من ذلك الفاضل من أعجب العجب، إذ كيف يكون خيرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ضعيفي المستوى العلمي، وما المراد بالعلم الذي ضعفوا فيه؟!
أليسوا أعلم الأمة، والأمة عالة عليهم في هذا؟!
ألم يخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى يوم القيامة؟! حفظه منهم من حفظه، ونسيه من نسيه.
إن مثل هذا القول خطير، وإني لأحسن الظن بأن قائله لم يتنبه لما يتبطنه هذا الكلام من خطأ محضٍ، وأن الأمر يحتاج إلى تعديل أسلوب وعبارات، والله المستعان.
وبعد، فإن هذين النقلين اللذين نقلتهما فيما يتعلق بالإعجاز العلمي إنما هما عن أفاضل ممن تكلموا في الإعجاز العلمي دون غيرهم ممن تخبط في هذا المجال.
وهنا يجب أن يُفرَّق بين فضلهم، وما لهم من قدم في الدعوة إلى الله، والحرص على هداية الناس، وبين ما وقعوا فيه من الخطأ، فالأول يشكر لهم ويُذكر ولا يُنكر، ولكن هذا الفضل ليس حجابًا حاجزًا عن التنبيه على ما وقعوا فيه من الخطأ.
كما أن التنبيه على خطئهم لا يعني نبذهم وعدم الاعتداد بهم، وإنما المقصود هنا تصحيح المسار في هذه القضية التي رُبِطت بكتاب الله، وجُعلت من أهم ما توصل إليه المعاصرون، بل جعله بعضهم هو طريق الدعوة للكفار.
وأختم هذا البحث بمسائل متفرقة في هذا الموضوع، وهي كالآتي:
أولاً: قضايا العلم التجريبي بين القرآن والعلم الحديث:
* العلم بالسنة الكونية لا يرتبط بالمعتقد، ولا بالأفكار؛ لأنها نتيجة البحث والتأمل، وهي من العلوم التي وكلها الله لعباده، فعلى قدر ما يكون الجهد في البحث يصل البشر بإذن الله إلى نتائجه المرجوة، ولما كان الوصول إلى هذه العلوم التجريبية مرتبطًا بالقدرة على البحث ووجود المناخ المناسب له، وكان الغرب الكافر قد حرص عليه، فإنهم قد سبقوا المسلمين في ذلك.
¥