إن أهم ما أسس القرآن فيما يتعلق بالعلوم ليس هو ذكر تفاصيلها أو كلياتها وإنما أهم ما أسس القرآن هو الرؤية القرآنية الكلية التي تؤطر كل ذلك، وهذه الرؤية الكلية القرآنية التي تربط بين عالم الغيب والشهادة ربطاً وثيقاً من الاستحالة بمكان على العقل البشري أن يقوم ببنائها بمعزل من الوحي، ومعلوم أن الوجود ليس مادة مجردة؛ إذ إن هنالك من الأمور الغيبية المتعلقة بالإنسان ما لا يمكن أن يناله العلم في إطاره المادي المجرد إطلاقاً وذلك نحو المبدأ والمصير والغاية العليا من الخلق فضلا عن معرفة الخالق نفسه وتدبيره للوجود، وكل هذه الأمور شديدة التعلق بالعلم الإنساني قوية الارتباط به.

ورغم كل ما ذكر إلا أن العلم - في الفكر الغربي - قد أخلد بالعلم إلى المادة وعالم الحس ورضي بذلك هروباً من تلك الأسئلة الكلية التي ذكرت؛ ولأجل ذلك أدخلت العلوم كل العلوم أياً كان نوعها وأياً كان طبيعتها في إطار المنهج المادي المجرد، وصارت العلوم الطبيعية سلطة مرجعية لكل العلوم؛ الاجتماعية منها والإنسانية؛ ولأجل ظهرت الخلافات الحادة بين علماء الاجتماعيات في المسألة الواحدة لتعدد الرؤى واختلاف المرجعيات، ولما تزاور علماء الاجتماعيات عن الوحي مصدر الأخلاق والقيم - أضحت هذه القيم من صنع المجتمع نفسه وليست لها عندهم مرجعية عليا على الإطلاق، وفي إطار هذا الواقع المريج ظهرت الأهداف غير العلمية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وارتبطت هذه العلوم بالأيديولوجيات والمصالح المتضاربة.

وفي مقابل ذلك فإن في القرآن العظيم بناء منهجياً يتعلق بالحياة الاجتماعية وما يتصل بها من معارف وعلوم، ويمكن استخلاص ذلك بإنعام النظر في كليات القرآن ومقاصده؛ وبهذا يمكن بناء رؤية كلية كونية عامة تؤطر هذه العلوم؛ وتخرجها من فلسفتها المادية المحضة وتعالج أزمتها.

وهذه الرؤية القرآنية لا تؤطر العلوم الاجتماعية والإنسانية فحسب بل تؤطر كل العلوم، سواء الاجتماعية منها أو الطبيعية، وهذه العلوم الطبيعية رغم طبيعتها المادية ورغم نجاح المنهج الحسي في إدراك كثيراً من تفاصيلها إلا أنها أيضاً تتعلق بتلك الرؤية الكلية أشد ما يكون التعلق وترتبط بها أقوى ما يكون الارتباط، فليس صحيحاً ما قد يتوهم من أن طبيعة بنائها المادية يجعلها بمنأى عن هذه الرؤية العقدية الكلية، يقول محجوب عبيد عن تلك الرؤية المتوهمة: (هذا التصور قد يكون مقبولاً حين كان العلم في بداياته يتدرج نحو صقل طرق القياس وتطوير سبل الاستنباط والاستدلال والبرهان؛ حين كان هذا العلم أقرب إلى حنكة الحرفة منه إلى عمق الفكر والمبدأ، ولكن التطورات المعاصرة في الفيزياء النظرية وعلم الكون والهندسة الوراثية قد تجاوزت ذلك الموقف الشكلي وقربت تطوراتها قضايا هذه العلوم من موضوعات البداية والنهاية وأطلت به على مشارف قضايا كبيرة في العقيدة والفلسفة، وهذه التطورات قد أحرجت الموقف الشكلي البسيط الذي يفصل بين الحقائق العلمية والمذاهب الفكرية وفضحت ضعفه أمام الأبواب المفتوحة نحو إشباع طموح الإنسان في الوقوف على أسرار الخليقة وطبيعة الأشياء)

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[13 Jan 2010, 08:33 م]ـ

خاتمة:-

لم يغادر القرآن أمراً يتعلق بحياة الناس وعلومهم إلا ذكره وإن اختلف هذا الذكر من موضع إلى آخر ومن نوع من العلوم إلى نوع؛ فهو قد يذكر أحياناً تفاصيل بعض العلوم ويذكر أحياناً كلياتها ويذكر أحياناً مقاصد بعض قضاياها؛ ولهذا ينبغي – عند دراسة علاقة ذلك بالقرآن- أن نهتم بهذه الأشياء بقدر اهتمام القرآن بها، ولكن مما ليس فيه من شك هو أن الرؤية القرآنية الكلية تحيط بكل العلوم وبكل المعارف وبكل أمور الحياة وترتبط بها أشد ما يكون الارتباط، وليس ذلك فحسب بل إن هذه الرؤية تتعدى كل ذلك إلى عالم الغيب أيضاً وتربطه به. وما ذاك إلا لأن القرآن هو صراط الله المستقيم الذي لا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الكريم جمّ المنافع؛ المشتمل على أصول العلوم في صلاح المعاش والمعاد.

هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[13 Jan 2010, 08:34 م]ـ

المصادر والمراجع:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015