بيّنا أنّ البيان قد يكون في اللفظ أو المعنى أو التأليف، غير أنّ طبيعة هذا الأخير تستدعي ضرورة رصد العلاقات التركيبيّة وفق ما يقتضيه النظام اللغوي من جهة، وما يمليه السيّاق المحدّد الذي ترد فيه من جهة أخرى. وقد عبّر لغويّونا القدامى عن ذلك بمقولة دقيقة وهي "لكلِّ مقام مقال ولكلِّ كلمة مع صاحبتها مقام"، فأضحى البيان في تأليف الكلام ضمن هذا الطرح مرتهناً بمقتضى الحال، فـ "إذا كان مقتضى الحال إطلاق الحكم فحسن الكلام تحليه بشيء من ذلك، بحسب المقتضى ضعفاً وقوّة، وإن كان مقتضى الحال طي ذكر المسند إليه فحسن الكلام تركه، وإن كان المقتضى إثباته على وجه من الوجوه المذكورة، فحسن الكلام وروده على الاعتبار المناسب، وكذا إذا كان المتقضى ترك المسند فحسن الكلام وروده عارياً عن ذكره، وإن كان المقتضى إثباته مخصصاً بشيء من التخصيصات، فحسن الكلام نظمه على الوجوه المناسبة من الاعتبارات المقدّم ذكرها، وكذا إن كان المقتضي عند انتظام الجملة مع أخرى فصلها أو وصلها والإيجاز معها أو الإطناب، أعني طيّها عن البين ولا طيّها، فسن الكلام تأليفه مطابقاً لذلك" (22).

يتَّضح في رحاب هذا التوضيح أنّ الصياغة اللغويّة ترتبط بالسياقات التي ترد فيها، وذلك بذكرنا عناصر معينة أو حذفها، ويكون لها أهميّة بالغة في الإبلاغ، كما نلاحظ أنّ طبيعة التأليف إيجازاً أو إطناباً أو تجريداً أو تأكيداً تتأثّر بحسب المقام الذي ترد فيه. فمستويات التعبير تتنوّع بتنوّع الأحوال والمقامات، يقول السكاكي: "لا يخفى عليك أنّ مقامات الكلام متفاوتة؛ فمقام التشكّر يباين مقام الشكاية، ومقام الترغيب يباين مقام الترهيب، ومقام الجدّ في جميع ذلك يباين مقام الهزل، وكذا مقام الكلام ابتداء يغاير مقام الكلام بناء على الاستخبار أو الإنكار ... " (23). فلو ركّزنا على هذا القول فإنّنا سندرك أنّ أشكال الاستعمال اللغوي في مختلف العلاقات الاتّصالية تتنوَّع بحسب مقتضيات الاتِّصال اللغوي، ولو تأمَّلنا أكثر العبارة الأخيرة واستحضرنا مقولة الحجاج الذي يتأسّس على الإنكار أو الشكّ فإنّنا نلاحظ أنّ البيان الحِجاجي يرتبط في أساسه بمستلزمات خاصة تستدعي التركيز عليها من أجل تحقيق التصديق والإقناع بالطرح المقدّم.

وذكر أرسطو أنّ هناك ثلاثة أنواع من التصديقات التي قد يلجأ إليها المتكلِّم من أجل الإقناع، يقول: "فأمّا التصديقات التي نحتال لها بالكلام فإنّها أنواع ثلاثة؛ فمنها ما يكون بكيفية المتكلّم وسمته، ومنها ما يكون بتهيئة للسامع واستدراجه نحو الأمر، ومنها ما يكون بالكلام نفسه قبل التثبيت" (24). لنرى أنّ الحجاج في الاستعمال اللغوي يرتهن بمجموعة من المعطيات؛ منها ما يرتبط بالمتكلِّم، ومنها ما يتعلَّق بالمتلقِّي، ومنها ما يبقى على صلة بالرسالة اللغويّة نفسها.

فممّا يخصّ المتكلِّم فإنّه يجب عليه التحكّم في الموضوع الذي يقدِّمه، وأن يوفِّيه حقّه مما تستدعيه الصياغة اللغويّة. وفي رحاب هذا التصوّر حذّر "بيرلمان" من خطأي الإفراط والتفريط، أو المبالغة أو الإهمال فيما يخص المسائل موضع النقاش والتحليل؛ أي "على المتكلِّم تقديم تصوّره في المساحة الملائمة له، ثم منحه القدر المناسب من الحجج التي لا يشكل إيرادها لدعم الموضوع مفارقة أو نشازاً؛ لأنّ تهويل الموضوع ومنحه مساحة أكبر من حجمه، ثم التوسّل بعد ذلك بجلّ الأطر المعرفيّة السائدة في بيئة معيّنة من أجل دعمه وإثباته هو أمر باعث على السخرية ومؤدٍّ لتهافت الحِجاج. وبالمقابل فإنّ عرض الفرضيات والتحليلات في الهامش أو أي الظلّ، وعدم الانتباه إلى أهميّتها في مقام الإلقاء هو بدوره دليل على عدم خبرة المتكلّم وتشوّش أفكاره، وهي كلّها أمور يدركها جلّ المعنيين بالخطاب، كما تدركها بوجه أفضل الأطراف المعارضة للخطاب؛ بل قد تعمد هذه الأطراف إلى التقاط تلك الهفوات وتوظيفها وإثرائها بما ترى أن المقام يستدعيه" (25).

أما فيما يتعلّق بالمخاطب؛ أي متلقِّي الرسالة الإبلاغيّة ذات الحكم المعيّن فإنّه يستدعي مراعاته في الحِجاج. وقد أشار لغويُّونا إلى أنّ المخاطبين الذين يُلقى إليهم الخبر يصنّفون إلى ثلاث أصناف:

1. مخاطب خالي الذهن.

2. مخاطب شاكّ متردّد.

3. مخاطب جاحد منكر (26).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015