ففي [صحيح البخاري] سنده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها، واستقينا، فأمرهم، أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، وفيه بسنده إلى ابن عمر، أن الناس نزلوا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أرض ثمود الحجر، واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يهريقوا ما استقوا من بئرها وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.
إن المتأمل في علة المنع من الاستقاء من هذه الآبار سيخرج بأحد أمرين: إما لنجاسة الماء، أو لوصف لازم له يوجب تحريمه، وجمهور أهل العلم متفقون على القول بطهارة مياه تلك الآبار؛ لما روى أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- سئل: أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب –فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "الماء طهور لا ينجسه شيء" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حديث بئر بضاعة صحيح. فتعين القول بأن علة المنع من ذلك وصف قائم فيه لازم له يوجب تحريمه.
وإلى نحو ذلك أشار القرطبي –رحمه الله- في تفسير سورة الحجر فقال: أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به؛ لأنه ماء سخط فلم يجز الانتفاع به؛ فراراً من سخط الله، وقال: ((أعلفوه الإبل)) قال مالك: إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم، إذ لا تكليف عليها. ا هـ.
وفي [الإقناع وشرحه] ما نصه: ولا يباح ماء آبار ديار ثمود غير بئر الناقة .. إلى أن قال: فظاهره، أي: ظاهر القول بتحريم ماء غير بئر الناقة من ديار ثمود لا تصح الطهارة، أي: الوضوء والغسل به؛ لتحريم استعماله؛ كماء مغصوب، أو ماء ثمنه المعين حرام في البيع، فلا يصح الوضوء بذلك، ولا الغسل به؛ لحديث: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" .. إلى أن قال: ولا يستعمله؛ لأنه ممنوع شرعاً فهو كالمعدوم حساً. ا هـ.
وحيث اتجه القول إلى أن علة المنع: اشتماله على وصف لازم له، وهو كونه ماء سخط، فإن الثمار الناتجة من مزارع وبساتين تلك الديار المسقاة بتلك الآبار شبيهة بالطحين المعجون بماء هذه الآبار، إن لم تكن أولى منها. ذلك أن العجين بمائها مركب من أمرين: مباح، هو: الطحين، ومحرم، هو: الماء، أما الثمار فمحتواها لا يخرج عن تربة تلك الديار ومياه آبارها، والقول باستحالة حرمة هذه المياه حينما تحولت إلى ثمار قياساً على النجاسة غير صحيح –فيما أرى- قياس مع الفارق، فإن الشيء المتنجس يزول بغسله، أو باستحالته، أما التحريم فلا يزول إلا بزوال الوصف الموجب له، كاستحالة الخمر إلى خل، فإن الوصف الموجب لتحريمها الإسكار، وباستحالتها إلى خل زال ذلك الوصف، فصارت حلالاً. وتحريم مياه هذه الآبار –لكونها مياه سخط أو لأي وصف آخر- موجب للتحريم، والوصف الموجب لتحريم مياه آبار ديار ثمود وصف ملازم لها، سواء اختلطت بغيرها –كالعجين- أو شكلت مع غيرها أجساماً أخرى كالثمار.
يدل على أن الحرمة لا تزول عن الشيء المحرم- وإن انتقل من حال إلى حال إلا بزوال الوصف الموجب لها- ما روى الجماعة عن جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه"، وما روى ابن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه" رواه أحمد وأبو داود.
فإن حرمة الشحوم على اليهود انسحبت على أثمان أدهانها، ولم تنفعهم حيلتهم لاستباحتها، بل بقي التحريم قائماً، فاستحقوا بذلك لعنة الله لاستباحته.
كما يدل على ذلك ما ثبت عنه –صلى الله عليه وسلم- من أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغير، يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له. فذكر أن من أسباب رد الدعاء وعدم الاستجابة –أكل الحرام، وشربه، والتغذية به، مع أن أعيان هذه الأشياء المحرمة تستحيل إلى مواد أخرى بعد أكلها أو شربها، ومع ذلك لم تكن استحالتها مانعة من ملازمة الحرمة لها، ومن كون ملازمة الحرمة لها سبباً في ردّ الدعاء ومنع الاستجابة؛ لأن الوصف الموجب لحرمتها ملازم لها.
لذلك كله فإني أرى أن لثمار مزارع وبساتين ديار ثمود حكم الطحين المعجون بمائها، وهو إطعامه الدواب.
وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الطائف في 20/ 8/1394هـ عضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان بن منيع
¥