هذا، أدركنا بوضوح أن المسلم يمثل محطة تصفية للنفايات القولية. فالمسلم لا يمكن أن يرسل إلا الحق والخير، أما ما كان شرا وما كان باطلا وما لم نعلم هل هو شر أم خير، وهل هو باطل أم حق، فهو أيضا يلحق بالباطل والخطأ.

لنتصور أن هذه الحقيقة يعيشها الفرد، وتعيشها الأسرة والجماعة، ويعيشها الإعلام والتعليم وتعيشها الأمة، إلى أي حد يقل الشر في التداول ويكثر الخير.

إن المسلم محطة تصفية، لا يسمح للشر بالمرور، وإن استقبله فهو لضرورة؛ لأن الله جل جلاله جعل أجهزة الاستقبال لا تغلق، ولكن أجهزة الإرسال تغلق، فيجب التحكم فيها، فيمكن للمسلم أن يستقبل الخير والشر، ولكن لا يرسل إلا الخير.

نحن بحاجة إذن إلى هذا الهدى المنهاجي أيضا في "التعبير"، ومثل ذلك وأهم منه وأعظم، تحتاج الأمة إليه في "التدبير" لأمور ثلاثة مهمة، أولها: "تيسير الذكر". فلقد حملت هذه الأمة أمانة، ويجب أن تيسرها للناس، تحملها هي بجدارة ثم تبلغها للناس ميسرة، فقد يسر الله سبحانه وتعالى الذكر للذاكرين: ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ? (القمر:17)، وذلك لينتشر الهدى. وثانيها: "تعمير الأرض" وفق هذا الذكر نفسه. وثالثها: "تسخير الكون" وفق هذا الهدى أيضا. كل ذلك هو صلب "التدبير". فأي فعل صدر من العبد يجب أن يحكمه هذا القرآن الكريم.

مفهوم الهدى المنهاجي

"الهُدى" مداره على الدلالة والبيان والإرشاد؛ هَداه يهديه: دلَّه بلطف كما عبر الراغب الأصفهاني قال: "الهداية هي الدلالة بلطف"، وليس بعنف، وهي التي تلائم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتلائم المرسلين وأتباعهم. فهذه الدلالة بلطف أو هذا البيان الرفيق أو هذا الإرشاد الحكيم، كل ذلك من محتويات الهدى بصفة عامة.

أما "المنهاج"، فهناك ثلاثة ألفاظ تستعمل فيه: "النهج" و"المنهج" و"المنهاج"، وكلها يقصد بها الطريق، لكن "المنهج" أغلب استعماله في الطريق الفكري، وأغلب استعمال "النهج" في الطريق مطلقا، وأغلب استعمال "المنهاج" في الطريق العملي الذي له أصل فكري، ولكن الذي هو في البؤرة في لفظة المنهج هو الطريق الفكري، أي الكيفية النظرية التي يتم وفقها الوصول إلى حقائق معينة. وأما "المنهاج" فهو الطريقة العملية التي يسار عليها للوصول إلى مقاصد بعينها.

فإذا ركبنا الأمر وقلنا "الهدى المنهاجي"، يصير الأمر تلقائيا أن المقصود به هو الطريقة المُثلى في "التفكير" وفي "التعبير" وفي "التدبير". فإذا قلنا: "الهدى"، انصرف إلى هدى الله عز وجل ?قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى? (البقرة:120)، وحين نقول "الهدى المنهاجي في القرآن الكريم"، نقصد به "الطريقة المثلى في أداء الخلافة، وفي أداء العبادة، وفي أداء الشهادة". فنحن المسلمين مطلوب منا الأداء العام الذي لجميع البشرية، وهو أداء وظيفة الخلافة، ومطلوب منا أداء وظيفة العبادة داخل إطار وظيفة الخلافة، ثم أداءُ وظيفة الشهادة داخل إطار الخلافة. فالعبادة هي الأخص. هذه الشهادة لها طريقة معينة يمكن التأهل لها، ويمكن أداؤها تبعا لذلك التأهل. فالطريقة المثلى التي يرشد إليها كتاب الله عز وجل، وبيانه الذي هو السنة الصحيحة، تلك الطريقة المثلى التي ترشد المسلمين خاصة والناس عامة إلى الأفضل والأقوم في كل المجالات، سواء في مجال التفكير أو مجال التعبير أو مجال التدبير، وهذا الأخير بجميع مستوياته أيضا: تيسيرا للذكر أو تعميرا للأرض أو تسخيرا للكون وما فيه من طاقات ?أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً? (لقمان:20)، كل ذلك كامن في كتاب الله عز وجل، وعلى المسلمين استخراجه.

مصادر الهدى المنهاجي

وتتلخص في ثلاثة مصادر كبرى، وهي أولا: القرآن فهو الأصل لغيره، ثانيا: السنة التي هي بيان القرآن ?وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ? (النحل:44)، ثالثا: السيرة النبوية. فعندنا ثلاثة مصادر هي: القصص القرآني والقصص الحديثي ثم السيرة النبوية.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015