هذه الحال هي نعمة من الله عز وجل، وإذا ربطنا الكلام ببعضه، فإننا نجد من أسماء الله الحسنى "المؤمن"، وقد فهم الراغب الأصفهاني -كما مر في نصه السابق- أن معنى اسم الله المؤمن: الذي يمنح الأمن ويعطيه، فهذه الحال -التي هي نعمة من الله عز وجل- هو الذي يعطيها: ?لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ? (قريش:1 - 4)، ومعنى ?آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ? أي أعطاهم الأمن، وللمكان طبيعته الخاصة، وسره الخاص، وقد وصف القرآن الكريم ذلك المكان في مواطن متعددة بأنه "آمن" ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا? (البقرة:126)، ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا? (إبراهيم:35)، ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا? (العنكبوت:67). ذلك سر جعله الله في ذلك المكان تفضلا منه سبحانه وتعالى، وإنا لنرى ذلك حتى الساعة، إذ كيف نفسر -على سبيل المثال- اندياح موجة الاستعمار الغربي على جميع ديار الإسلام -تقريبا- ولكن لم يحدث هذا الأمر بالنسبة للبلد الحرام، لا لأن تلك المنطقة كانت قوية، فعسر على الاستعمار أن يحتلها، ولكن هناك سر الله عز وجل في هذا الأمر، جعله آمنا ?وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا? (آل عمران:97)، هذا شيء نراه عبر التاريخ، وهذه الملحوظة بالتحديد تلفت النظر بقوة، فالجزيرة تنقصت من أطرافها واحتلت شوائطها الشرقية وجنوبها وغربها وشمالها وبقي وسطها. والأمر كذلك بالنسبة للفُرس والروم زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله، فالمكان له وضعيته وله حال خاصة هبة من الله تعالى لا تزال مستمرة، لكن بالنسبة للإنسان حصول تلك الحال مرتبط بأسباب وشروط. وهنا نقف في النظرة الثالثة على أسباب وجود الأمن وشروط استمراره.

الأمن ثمرة من ثمرات الإيمان

السبب الأول لوجود الأمن في هذه الأمة -وهو شرط في نفس الوقت- هو الإيمان. والأمر في غاية الوضوح، هناك علاقة بين الإيمان والأمانة والأمن، وهذه الألفاظ الثلاثة تنتمي لنفس المادة. والأصل الذي يتفرع منه كل شيء هو الإيمان، والإيمان يعطي الأمانة ويعطي أداء الأمانة و"لا إيمان لمن لا أمانة له" (رواه الإمام أحمد)، والله أمر بأداء الأمانات وحرم خيانة الأمانات ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ? (الأنفال:27)، وكل المسؤوليات أمانات، فما نسميه اليوم بالمسؤولية هو أمانة.

وهناك الأمانة العظمى التي أشارت إليه الآية الكريمة بالنسبة لآدم وبنيه (أي للإنسان) في الآية المشهورة ?إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً? (الأحزاب:72). هذه أمانة الاستخلاف العامة، فالأمانة العامة هكذا على إطلاقها هي أمانة الاستخلاف في الأرض، فبنو آدم غيرُهم مسخر لهم، وكل ما سواهم يخدمهم، وهم عليهم أن يخدموا الله عز وجل وأن يعبدوا الله جل جلاله. هذه الأمانة (أمانة الاستخلاف) تليها أمانة أخرى أعظم منها وهي أمانة "الشهادة على الناس" بالنسبة لهذه الأمة خاصة؛ لأن الأمم السابقة ما حمّلت تبليغ الدين فرضا، نعم، كان نفلا وكان مطلوبا من المسلمين قبل مجيء الرسول الخاتم، لأن جميع من مضى من المؤمنين كانوا مسلمين أنبياء وغير أنبياء، لكن لم يكونوا مكلفين فرضا بالتبليغ إلا في هذه الأمة فقد انتهى إرسال الرسل وانتهت النبوات، وصارت الأمة كلها مكلفة بما كان مكلفا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك جعلها الله في مستوى معين ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا? (البقرة:143)، هذه الأمانة إلى جانب الأمانة الأخرى، كلها إنما تؤدى على حقيقتها بالإيمان، إذا وجد الإيمان أُدّيت، وإذا لم يوجد لا تؤدى هذه الأمانات، وهذه الأمانة على عمومها تحتها أمانات: فالصلاة أمانة والزكاة أمانة وتربية الأولاد أمانة ... وكل تكليف من تكاليف الشرع أمانة من

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015